وأما الحالة الثانية : فهي اختلاف القراء في حروف الكلمات مثل ( مالك يوم الدين ) و ( ملك يوم الدين ) و ( ننشرها ) و ( ننشزها ) و ( ظنوا أنهم قد كذبوا ) " بتشديد الذال " أو ( قد كذبوا ) بتخفيفه وكذلك اختلاف الحركات الذي يختلف معه معنى الفعل كقوله ( ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون ) قرأ نافع بضم الصاد وقرأ حمزة بكسر الصاد فالأولى بمعنى يصدون غيرهم عن الإيمان والثانية بمعنى صدودهم في أنفسهم وكلا المعنيين حاصل منهم وهي من هذه الجهة لها مزيد تعلق بالتفسير لأن ثبوت أحد اللفظين في قراءة قد يبين المراد من نظيره في القراءة الأخرى أو يثير معنى غيره ولأن اختلاف القراءات في ألفاظ القرآن يكثر المعاني في الآية الواحدة نحو ( حتى يطهرن ) بفتح الطاء المشددة والهاء المشددة وبسكون الطاء وضم الهاء مخففة ونحو ( لامستم النساء ) و ( لمستم النساء ) وقراءة ( وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إناثا ) مع قراءة ( الذين هم عباد الرحمن ) والظن أن الوحي نزل بالوجهين وأكثر تكثيرا للمعاني إذا جزمنا بأن جميع الوجوه في القراءات المشهورة هي مأثورة عن النبي A على أنه لا مانع من أن يكون مجيء ألفاظ القرآن على ما يحتمل تلك الوجوه مرادا لله تعالى ليقرأ القراء بوجوه فتكثر من جراء ذلك المعاني فيكون وجود الوجهين فأكثر في مختلف القراءات مجزئا عن آيتين فأكثر وهذا نظير التضمين في استعمال العرب ونظير التورية والتوجيه في البديع ونظير مستتبعات التراكيب في علم المعاني وهو من زيادة ملاءمة بلاغة القرآن ولذلك كان اختلاف القراء في اللفظ الواحد من القرآن قد يكون معه اختلاف المعنى ؛ ولم يكن حمل أحد القراءتين على الأخرى متعينا ولا مرجحا وإن كان قد يؤخذ من كلام أبي علي الفارسي في كتاب " الحجة " أنه يختار حمل معنى إحدى القراءتين على معنى الأخرى ومثال هذا قوله في قراءة الجمهور قوله تعالى ( فإن الله هو الغني الحميد ) في سورة الحديد وقراءة نافع وابن عامر ( فإن الله الغني الحميد ) بإسقاط " هو " أن من أثبت " هو " يحسن أن يعتبره ضمير فصل لا مبتدأ لأنه لو كان مبتدأ لم يجز حذفه في قراءة نافع وابن عامر قال أبو حيان : " وما ذهب إليه ليس بشيء لأنه بني ذلك على توافق القراءتين وليس كذلك ألا ترى أنه قد يكون قراءتان في لفظ واحد لكل منهما توجيه يخالف الآخر كقراءة ( والله أعلم بما وضعت ) بضم التاء أو سكونها . وأنا أرى أن على المفسر أن يبين اختلاف القراءات المتواترة لأن في اختلافها توفيرا لمعاني الآية غالبا فيقوم تعدد القراءات مقام تعدد كلمات القرآن .
وهذا يبين لنا أن اختلاف القراءات قد ثبت عن النبي A كما ورد في حديث عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم بن حزام " ففي صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب قال : سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ في الصلاة سورة الفرقان في حياة رسول الله فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلببته بردائه فقلت : من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ ؟ قال أقرأنيها رسول الله فقلت كذبت فإن رسول الله أقرأنيها على غير ما قرأت فانطلقت به أقوده إلى رسول الله فقلت إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها فقال رسول الله اقرأ يا هشام فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله كذلك أنزلت ثم قال اقرأ يا عمر فقرأت القراءة التي أقرأني فقال رسول الله كذلك أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه " اه .
وفي الحديث إشكال وللعلماء في معناه أقوال يرجع إلى اعتبارين : أحدهما اعتبار الحديث منسوخا والآخر اعتباره محكما .
A E