فأما الذين اعتبروا الحديث منسوخا وهو رأي جماعة منهم أبو بكر الباقلائي وابن عبد البر وأبو بكر بن العربي والطبري والطحاوي وينسب إلى ابن عيينة وابن وهب قالوا كان ذلك رخصة في صدر الإسلام أباح الله للعرب أن يقرأوا القرآن بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها ثم نسخ ذلك بحمل الناس على لغة قريش لأنها التي بها نزل القرآن وزال العذر لكثرة الحفظ وتيسير الكتابة وقال ابن العربي دامت الرخصة مدة حياة النبي عليه السلام وظاهر كلامه أن ذلك نسخ بعد وفاة رسول الله A فإما نسخ بإجماع الصحابة أو بوصاية من النبي A واستدلوا على ذلك بقول عمر : إن القرآن نزل بلسان قريش وبنهيه عبد الله بن مسعود أن يقرأ ( فتول عنهم حتى حين ) وهي لغة هذيل في ( حتى ) وبقول عثمان لكتاب المصاحف فإذا اختلفتم في حرف فاكتبوه بلغة قريش فإنما نزل بلسانهم يريد أن لسان قريش هو الغالب على القرآن أو أراد أنه نزل بما نطقوا به من لغتهم وما غلب على لغتهم من لغات القبائل إذ كان عكاظ بأرض قريش وكانت مكة مهبط القبائل كلها .
ولهم في تحديد معنى الرخصة بسبعة أحرف ثلاثة أقوال : الأول أن المراد بالأحرف الكلمات المترادفة للمعنى الواحد أي أنزل بتخيير قارئه أن يقرأه باللفظ الذي يحضره من المرادفات تسهيلا عليهم حتى يحيطوا بالمعنى . وعلى هذا الجواب فقيل المراد بالسبعة حقيقة العدد وهو قول الجمهور فيكون تحديدا للرخصة بأن لا يتجاوز سبعة مرادفات أو سبع لهجات أي من سبع لغات ؛ إذ لا يستقيم غير ذلك لأنه لا يتأتى في كلمة من القرآن أن يكون لها ستة مرادفات أصلا ولا في كلمة أن يكون فيها سبع لهجات إلا كلمات قليلة مثل " أف - وجبريل - وأرجه " . وقد اختلفوا في تعيين اللغات السبع فقال أبو عبيدة وابن عطية وأبو حاتم والباقلاني هي من عموم لغات العرب وهم : قريش وهذيل وتيم الرباب والأزد وربيعة وهوازن وسعد بن بكر من هوازن وبعضهم يعد قريشا وبني دارم والعليا من هوازن وهم سعد بن بكر وجشم بن بكر ونصر بن معاوية وثقيف قال أبو عمرو بن العلاء أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم وهم بنو دارم .
وبعضهم يعد خزاعة ويطرح تميما وقال أبو علي الاهوازي وابن عبد البر وابن قتيبة هي لغات قبائل من مضر وهم قريش وهذيل وكنانة وقيس وضبة وتيم الرباب وأسد بن خزيمة وكلها من مضر .
القول الثاني : لجماعة منهم عياض : أن العدد غير مراد به حقيقته بل هو كناية عن التعدد والتوسع وكذلك المرادفات ولو من لغة واحدة كقوله ( كالعهن المنفوش ) وقرأ ابن مسعود " كالصوف المنفوش " وقرأ أبي ( كلما أضاء لهم مشوا فيه ) " مروا فيه " سعوا فيه وقرأ ابن مسعود ( انظرونا نقتبس من نوركم ) أخرونا أمهلونا وأقرأ ابن مسعود رجلا ( إن شجرة الزقوم طعام الأثيم ) فقال الرجل طعام اليتيم فأعاد له فلم يستطع أن يقول الأثيم فقال له ابن مسعود : أتستطيع أن تقول طعام الفاجر ؟ قال نعم قال فاقرأ كذلك وقد اختلف عمر وهشام بن حكيم ولغتهما واحدة .
القول الثالث : أن المراد التوسعة في نحو ( كان الله سميعا عليما ) أن يقرأ " عليما حكيما " ما لم يخرج عن المناسبة كذكره عقب آية عذاب أن يقول ( وكان الله غفورا رحيما ) أو عكسه وإلى هذا ذهب ابن عبد البر .
وأما الذين اعتبروا الحديث محكما غير منسوخ فقد ذهبوا في تأويله مذاهب : فقال جماعة منهم البيهقي وأبو الفضل الرازي أن المراد من الأحرف أنواع أغراض القرآن كالأمر والنهي والحلال والحرام أو أنواع كلامه كالخبر والإنشاء والحقيقة والمجاز : أو أنواع دلالته كالعموم والخصوص والظاهر والمؤول . ولا يخفى أن كل ذلك لا يناسب سياق الحديث على اختلاف رواياته من قصد التوسعة والرخصة . وقد تكلف هؤلاء حصر ما زعموه من الأغراض ونحوها في سبعة فذكروا كلاما لا يسلم من النقض .
A E