فأئمة العربية لما قرأوا القرآن قرأوه بلهجات العرب الذين كانوا بين ظهرانيهم في الأمصار التي وزعت عليها المصاحف : المدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام قيل واليمن والبحرين وكان في هذه الأمصار قراؤها من الصحابة قبل ورود مصحف عثمان إليهم فقرأ كل فريق بعربية قومه في وجوه الأداء لا في زيادة الحروف ونقصها ولا في اختلاف الإعراب دون مخالفته مصحف عثمان ويحتمل أن يكون القارئ الواحد قد قرأ بوجهين ليرى صحتهما في العربية قصدا لحفظ اللغة مع حفظ القرآن الذي أنزل بها ولذلك يجوز أن يكون كثير من اختلاف القراء في هذه الناحية اختيارا وعليه يحمل ما يقع في كتابي الزمخشري وابن العربي من نقد بعض طرق القراء على أن في بعض نقدهم نظرا وقد كره مالك C القراءة بالإمالة مع ثبوتها عن القراء وهي مروية عن مقرئ المدينة نافع من رواية ورش عنه وانفرد بروايته أهل مصر فدلت كراهته على أنه يرى أن القارئ بها ما قرأ إلا بمجرد الاختيار وفي تفسير القرطبي في سورة الشعراء عن أبي إسحاق الزجاج يجوز أن يقرأ ( طسين ميم ) بفتح النون من ( طسين ) وضم الميم الأخيرة كما يقال هذا معد يكرب اه مع أنه لم يقرأ به أحد . قلت : ولا ضير في ذلك ما دامت كلمات القرآن وجمله محفوظة على نحو ما كتب في المصحف الذي أجمع عليه أصحاب رسوا الله إلا نفرا قليلا شذوا منهم كان عبد الله بن مسعود منهم فإن عثمان لما أمر بكتب المصحف على نحو ما قرأ رسول الله A وأثبته كتاب المصحف رأى أن يحمل الناس على اتباعه وترك قراءات ما خالفه وجمع جميع المصاحف المخالفة له وأحرقها ووافقه جمهور الصحابة على ما فعله . قال شمس الدين الأصفهاني في المقدمة الخامسة من تفسيره . كان على طول أيامه يقرأ مصحف عثمان ويتخذه إماما . وقلت : إنما كان فعل عثمان إتماما لما فعله أبو بكر من جمعه القرآن الذي كان يقرأ في حياة الرسول وأن عثمان نسخه في مصاحف لتوزع على الأمصار فصار المصحف الذي كتب لعثمان قريبا من المجمع عليه وعلى كل قراءة توافقه وصار ما خالفه متروكا بما يقارب الإجماع . قال الأصفهاني في تفسيره " كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة وهي قراءة العامة التي قرأ بها رسول الله A على جبريل في العام الذي قبض فيه ويقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله على جبريل " اه وبقى الذين قرأوا قراءات مخالفة لمصحف عثمان يقرأون بما رووه لا ينهاهم أحد عن قراءتهم ولكن يعدوهم شذاذا ولكنهم لم يكتبوا قراءتهم في مصاحف بعد أن أجمع الناس على مصحف عثمان قال البغوي في تفسير قوله تعالى ( وطلح منضود ) عن مجاهد وفي الكشاف والقرطبي - قرأ علي بن أبي طالب " وطلع منضود " بعين في موضع الحاء وقرأ قارئ بين يديه وطلح منضود فقال : وما شأن الطلح ؟ إنما هو " وطلع " وقرأ " لها طلع نضيد " فقالوا أفلا نحولها ؟ فقال إن آي القرآن لا تهاج اليوم ولا تحول أي لا تغير حروفها ولا تحول عن مكانها فهو قد منع من تغيير المصحف ومع ذلك لم يترك القراءة التي رواها وممن نسبت إليهم قراءات مخالفة لمصحف عثمان عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وسالم مولى أبي حذيفة إلى أن ترك الناس ذلك تدريجا . ذكر الفخر في تفسير قوله تعالى ( إذ تلقونه بألسنتكم ) من سورة النور أن سفيان قال : سمعت أمي تقرأ " إذ تثقفونه بألسنتكم " وكان أبوها يقرأ بقراءة ابن مسعود ومع ذلك فقد شذت مصاحف بقيت مغفولا عنها بأيدي أصحابها منها ما ذكره الزمخشري في الكشاف في سورة الفتح أن الحارث بن سويد صاحب عبد الله بن مسعود كان له مصحف دفنه في مدة الحجاج قال في الكشاف لأنه كان مخالفا للمصحف الإمام وقد أفرط الزمخشري في توهين بعض القراءات لمخالفتها لما اصطلح عليه النجاة وذلك من إعراضه عن معرفة الأسانيد .
من أجل ذلك اتفق علماء القراءات والفقهاء على أن كل قراءة وافقت وجها في العربية ووافقت خط المصحف " أي مصحف عثمان " وصح سند راويها ؛ فهي قراءة صحيحة لا يجوز ردها قال أبو بكر ابن العربي : ومعنى ذلك عندي أن تواترها تبع لتواتر المصحف الذي وافقته وما دون ذلك فهو شاذ يعني وأن تواتر المصحف ناشئ عن تواتر الألفاظ التي كتبت فيه .
A E