فالقصر الأول لإبطال ما يلبسون به على الناس من أن محمدا A يدعو إلى التوحيد ثم يذكر الله والرحمان . ويلبسون تارة بأنه ساحر لأنه يدعو إلى ما لا يعقل . قال تعالى ( وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب ) فيكون معنى الآية في معنى قوله تعالى ( قل ما كنت بدعا من الرسل ) وقوله تعالى ( واسأل من أرسلنا قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمان آلهة يعبدون ) .
ثم إن كلا القصرين كان كلمة جامعة لدعوة الإسلام تقريبا لشقة الخلاف والتشعيب . وعلى جميع هذه الاعتبارات تفرع عليها جملة ( فهل أنتم مسلمون ) .
والاستفهام حقيقي أي فهل تسلمون بعد هذا البيان . وهو مستعمل أيضا في معنى كنائي وهو التحريض على نبذ الإشراك وعلى الدخول في دعوة الإسلام .
واسم الفاعل مستعمل في الحال على أصله أي فهل أنتم مسلمون الآن استبطاء لتأخر إسلامهم . وصيغ ذلك في الجملة الاسمية الدالة على الثبات دون أن يقال : فهل تسلمون لإفادة أن المطلوب منهم إسلام ثابت . وكأن فيه تعريضا بهم بأنهم في ريب يترددون .
( فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون [ 109 ] ) أي فإن أعرضوا بعد هذا التبيين المفصل والجامع فأبلغهم الإنذار بحلول ما توعدهم الله به .
والإيذان : الإعلام وهو بوزن أفعل من أذن لكذا بمعنى سمع . واشتقاقه من اسم الأذن وهي جارحة السمع ثم استعمل بمعنى العلم بالسمع ثم شاع استعماله في العلم مطلقا .
وأما ( آذن ) فهو فعل متعد بالهمزة وكثر استعمال الصيغتين في معنى الإنذار وهو الإعلام المشوب بتحذير . فمن استعمال أذن قوله تعالى ( فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) . ومن استعمال ( آذن ) قول الحارث بن حلزة : .
" آذنتنا ببينها أسماء وحذف مفعول ( آذنتكم ) الثاني لدلالة قوله تعالى ( ما توعدون ) عليه أو يقدر : آذنتكم ما يوحى إلي لدلالة ما تقدم عليه . والأظهر تقدير ما يشمل المعنيين كقوله تعالى ( فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ) .
وقوله تعالى ( على سواء ) ( على ) فيه للاستعلاء المجازي وهو قوة الملابسة وتمكن الوصف من موصوفه .
و ( سواء ) اسم معناه مستو . والاستواء : المماثلة في شيء ويجمع على أسواء . وأصله مصدر ثم عومل معاملة الأسماء فجمعوه لذلك وحقه أن لا يجمع فيجوز أن يكون ( على سواء ) ظرفا مستقرا هو حال من ضمير الخطاب في قوله تعالى ( آذنتكم ) أي أنذرتكم مستوين في إعلامكم به لا يدعي أحد منكم أنه لم يبلغه الإنذار . وهذا إعذار لهم وتسجيل عليهم كقوله في خطبته ( ألا هل بلغت ) .
ويجوز أن يتعلق المجرور بفعل ( آذنتكم ) قال أبو مسلم : الإيذان على السواء : الدعاء إلى الحرب مجاهرة لقوله تعالى ( فانبذ إليهم على سواء ) آه . يريد أن هذا مثل بحال النذير بالحرب إذ لم يكن في القرآن النازل بمكة دعاء إلى حرب حقيقية . وعلى هذا المعنى يجوز أن يكون ( على سواء ) حالا من ضمير المتكلم .
وحذف متعلق ( آذنتكم ) لدلالة قوله تعالى ( وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون ) عليه ولأن السياق يؤذن به لقوله قبله ( حتى إذا فتحت ياجوج وماجوج ) الآية . وتقدم عند قوله تعالى ( فانبذ إليهم على سواء ) في سورة الأنفال .
وقوله ( وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون ) يشمل كل ما يوعدونه من عقاب في الدنيا والآخرة إن عاشوا أو ماتوا .
و ( إن ) نافية وعلق فعل ( أدري ) عن العمل بسبب حرف الاستفهام وحذف العائد . وتقديره : ما توعدون به .
( إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون [ 110 ] ) جملة معترضة بين الجمل المتعاطفة . وضمير الغائب عائد إلى الله تعالى بقرينة المقام . والمقصود من الجملة تعليل الإنذار بتحقيق حلول الوعيد بهم وتعليل عدم العلم بقربه أو بعده ؛ علل ذلك بأن الله تعالى يعلم جهرهم وسرهم وهو الذي يؤاخذهم عليه وهو الذي يعلم متى يحل بهم عذابه .
وعائد الموصول في قوله تعالى ( ما تكتمون ) ضمير محذوف .
( وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين [ 111 ] ) A E