وما يتخيل من شدة في نحو القصاص والحدود فإنما هو لمراعاة تعارض الرحمة والمشقة كما أشار إليه قوله تعالى ( ولكم في القصاص حياة ) . فالقصاص والحدود شدة على الجناة ورحمة ببقية الناس .
وأما رحمة الإسلام بالأمم غير المسلمين فإنما نعني به رحمته بالأمم الداخلة تحت سلطانه وهم أهل الذمة . ورحمته بهم عدم إكراههم على مفارقة أديانهم . وإجراء العدل بينهم في الأحكام بحيث لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم في الحقوق العامة .
هذا وإن أريد ب ( العالمين ) في قوله تعالى ( إلا رحمة للعالمين ) النوع من أنواع المخلوقات ذات الحياة فإن الشريعة تتعلق بأحوال الحيوان في معاملة الإنسان إياه وانتفاعه به . إذ هو مخلوق لأجل الإنسان قال تعالى ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) وقال تعالى ( والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم ) .
وقد أذنت الشريعة الإسلامية للناس في الانتفاع بما ينتفع به من الحيوان ولم تأذن في غير ذلك . ولذلك كره صيد اللهو وحرم تعذيب الحيوان لغير أكله وعد فقهاؤنا سباق الخيل رخصة للحاجة في الغزو ونحوه .
ورغبت الشريعة في رحمة الحيوان ففي حديث الموطأ عن أبي هريرة مرفوعا : " أن الله غفر لرجل وجد كلبا يلهث من العطش فنزل في بئر فملأ خفه ماء وأمسكه بفمه حتى رقي فسقى الكلب فغفر الله له " .
أما المؤذي والمضر من الحيوان فقد أذن في قتله وطرده لترجيح رحمة الناس على رحمة البهائم . وفي تفاصيل الأحكام من هذا القبيل كثرة لا يعوز الفقيه تتبعها .
( قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون [ 108 ] ) عقب الوصف الجامع لرسالة محمد A من حيث ما لها من الأثر في أحوال البشر بوصف جامع لأصل الدعوة الإسلامية في ذاتها الواجب على كل متبع لها وهو الإيمان بوحدانية الله تعالى وإبطال إلهية ما سواه لنبذ الشرك المبثوث بين الأمم يومئذ . وللاهتمام بذلك صدرت جملته بالأمر بأن يقول لهم لاستصغاء أسماعهم .
وصيغت الجملة في صيغة حصر الوحي إليه في مضمونها لأن مضمونها هو أصل الشريعة الأعظم وكل ما تشتمل عليه الشريعة متفرع عليه فالدعوة إليه هي مقادة الاجتلاب إلى الشريعة كلها إذ كان أصل الخلاف يومئذ بين الرسول ومعانديه هو قضية الوحدانية ولذلك قالوا ( أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب ) .
وما كان إنكارهم البعث إلا لأنهم لم يجدوه في دين شركهم إذ كان الذين وضعوا لهم الشرك لا يحدثونهم إلا عن حالهم في الدنيا فما كان تصلبهم في إنكار البعث إلا شعبة من شعب الشرك . فلا جرم كان الاهتمام بتقرير الوحدانية تضييقا لشقة الخلاف بين النبي وبين المشركين المعرضين الذين افتتحت السورة بوصف حالهم بقوله تعالى ( اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم ) .
وأفادت ( إنما ) المكسورة الهمزة وإتلاؤها بغفل ( يوحى ) قصر الوحي إلى الرسول على مضمون جملة ( أنما إلهيكم إله واحد ) . وهو قصر صفة على موصوف . و ( أنما ) المفتوحة الهمزة هي أخت ( إنما ) المكسورة الهمزة في إفادة القصر لأن ( أنما ) المفتوحة مركبة من ( أن ) المفتوحة الهمزة و ( ما ) الكافة . كما ركبت ( إنما ) المكسورة من ( إن ) المكسورة الهمزة و ( ما ) الكافة . وإذ كانت ( أن ) المفتوحة أخت ( إن ) المكسورة في إفادة التأكيد فكذلك كانت عند اتصالها ب ( ما ) الكافة أختا لها في إفادة القصر . وتقدم الكلام على ذلك عند قوله تعالى ( فإن توليتم فاعملوا أنما على رسولنا البلاغ المبين ) في سورة العقود .
وإذ قد أتليت ( أنما ) المفتوحه بالاسم الجامع لحقيقة الإله وأخبر عنه بأنه إله واحد فقد أفادت أن صاحب هذه الحقيقة مستأثر بالوحدانية فلا يكون في هذه الحقيقة تعدد أفراد فأفادت قصرا ثانيا وهو قصر موصوف على صفة .
والقصر الأول إضافي أي ما يوحي إلى في شأن الإله إلا أن الإله إله واحد . والقصر الثاني أيضا إضافي . أي في شأن الإله من حيث الوحدانية . ولما كان القصر الإضافي من شأنه رد اعتقاد المخاطب بجملة القصر لزم اعتبار رد اعتقاد المشركين بالقصرين .
A E