وأياما كان تفسير الآية وسبب نزولها ومكانه فهي للإنذار بأنهم صائرون إلى زوال وأنهم مغلوبون زائلون كقوله في الآية الأخرى في سورة الأنبياء ( أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون ) أي ما هم الغالبون . وهذا إمهال لهم وإعذار لعلهم يتداركون أمرهم .
وجملة ( والله يحكم لا معقب لحكمه ) عطف على جملة ( أو لم يروا ) مؤكدة للمقصود منها وهو الاستدلال على أن تأخير الوعيد لا يدل على بطلانه فاستدل على ذلك بجملة ( وإما نرينك بعض الذي نعدهم ) ثم بجملة ( أو لم يروا أنا نأتي الأرض ) ثم بجملة ( والله يحكم ) لأن المعنى : أن ما حكم الله به من العقاب لا يبطله أحد وأنه واقع ولو تأخر .
ولذلك فجملة ( لا معقب لحكمه ) في موضع الحال وهي المقيدة للفعل المراد إذ هي مصب الكلام إذ ليس الغرض الإعلام بأن الله يحكم إذ لا يكاد يخفى وإنما الغرض التنبيه إلى أنه لا معقب لحكمه . وأفاد نفي جنس المعقب انتفاء كل ما من شأنه أن يكون معقبا من شريك أو شفيع أو داع أو راغب أو مستعصم أو مفتد .
والمعقب : الذي يعقب عملا فيبطله مشتق من العقب وهو استعارة غلبت حتى صارت حقيقة . وتقدم عند قوله تعالى ( له معقبات ) في هذه السورة كأنه يجيء عقب الذي كان عمل العمل .
وإظهار اسم الجلالة بعد الإضمار الذي في قوله ( أنا نأتي الأرض ) لتربية المهابة وللتذكير بما يحتوي عليه الاسم العظيم من معنى الإلهية والوحدانية المقتضية عدم المنازع وأيضا لتكون الجملة مستقلة بنفسها لأنها بمنزلة الحكمة والمثل .
وجملة ( وهو سريع الحساب ) يجوز أن تكون عطفا على جملة ( والله يحكم ) فتكون دليلا رابعا على أن وعده واقع وأن تأخره وإن طال فما هو إلا سريع باعتبار تحقق وقوعه ؛ ويجوز أن يكون عطفا على جملة الحال . والمعنى : بحكم غير منقوص حكمه وسريعا حسابه . ومآل التقديرين واحد .
والحساب : كناية عن الجزاء .
والسرعة : العجلة وهي في كل شيء بحسبه .
( وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار [ 42 ] ) لما كان قوله ( أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) تهديدا وإنذارا مثل قوله ( فقد جاء أشراطها ) وهو إنذار بوعيد على تظاهرهم بطلب الآيات وهم يضمرون التصميم على التكذيب والاستمرار عليه . شبه عملهم بالمكر وشبه بعمل المكذبين السابقين كقوله ( ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها ) . وفي هذا التشبيه رمز إلى أن عاقبتهم كعاقبة الأمم التي عرفوها . فنقص أرض هؤلاء من أطرافها من مكر الله بهم جزاء مكرهم فلذلك أعقب بقوله ( وقد مكر الذين من قبلهم ) أي كما مكر هؤلاء .
فجملة ( وقد مكر الذين من قبلهم ) حال أو معترضة .
وجملة ( فلله المكر جميعا ) تفريع على جملة ( أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) وجملة ( والله يحكم لا معقب لحكمه ) .
والمعنى : مكر هؤلاء ومكر الذين من قبلهم وحل العذاب بالذين من قبلهم فمكر الله بهم وهو يمكر بهؤلاء مكرا عظيما كما مكر بمن قبلهم .
A E وتقديم المجرور في قوله ( فلله المكر جميعا ) للاختصاص أي له لا لغيره لأن مكره لا يدفعه دافع فمكر غيره كلا مكر بقرينة أنه أثبت لهم مكرا بقوله ( وقد مكر الذين من قبلهم ) . وهذا بمعنى قوله تعالى ( والله خير الماكرين ) .
وأكد مدلول الاختصاص بقوله ( جميعا ) وهو حال من المكر . وتقدم في قوله تعالى ( إليه مرجعكم جميعا ) في سورة يونس .
وإنما جعل جميع المكر لله بتنزيل مكر غيره منزلة العدم فالقصر في قوله ( فلله المكر ) ادعائي والعموم في قوله ( جميعا ) تنزيلي .
وجملة ( يعلم ما تكسب كل نفس ) بمنزلة العلة لجملة ( فلله المكر جميعا ) لأنه لما كان يعلم ما تكسب كل نفس من ظاهر الكسب وباطنه كان مكره أشد من مكر كل نفس لأنه لا يفوته شيء مما تضمره النفوس من المكر فيبقى بعض مكرهم دون مقابلة بأشد منه فإن القوي الشديد الذي لا يعلم الغيوب قد يكون عقابه أشد ولكنه قد يفوقه الضعيف بحيلته .
وجملة ( وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار ) عطف على جملة ( فلله المكر جميعا ) . والمراد بالكافر الجنس أي الكفار . و ( عقبى الدار ) تقدم آنفا أي سيعلم أن عقبى الدار للمؤمنين لا للكافرين فالكلام تعريض بالوعيد