استئناف بياني نشأ عن قوله ( ومن يضلل الله فما له من هاد ) لأن هذا التهديد يومئ إلى وعيد يسال عنه السامع . وفيه تكملة للوعيد المتقدم في قوله ( ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة ) مع زيادة الوعيد بما بعد ذلك في الدار الآخرة .
وتنكير ( عذاب ) للتعظيم وهو عذاب القتل والخزي والأسر . وإضافة ( عذاب ) إلى ( الآخرة ) على معنى " في " .
و ( من ) الداخلة على اسم الجلالة لتعدية ( واق ) . و ( من ) الداخلة على ( واق ) لتأكيد النفي للتنصيص على العموم .
والواقي : الحائل دون الضر والوقاية من الله على حذف مضاف أي من عذابه بقرينة ما ذكر قبله .
( مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار [ 35 ] ) استئناف ابتدائي يرتبط بقوله ( الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم ) . ذكر هنا بمناسبة ذكر ضده في قوله ( ولعذاب الآخرة أشق ) . والمثل : هنا الصفة العجيبة قيل : هو حقيقة من معاني المثل كقوله تعالى ( ولله المثل الأعلى ) وقيل : هو مستعار من المثل الذي هو الشبيه في حالة عجيبة أطلق على الحالة العجيبة غير الشبيهة لأنها جديرة بالتشبيه بها .
وجملة ( تجري من تحتها الأنهار ) خبر عن ( مثل ) باعتبار أنها من أحوال المضاف إليه . فهي من أحوال المضاف لشدة الملابسة بين المتضايفين كما يقال : صفة زيد أسمر .
وجملة ( أكلها دائم ) خبر ثان والأكل بالضم : المأكول وتقدم .
ودوام الظل كناية عن التفاف الأشجار بحيث لا فراغ بينها تنفذ منه الشمس كما قال تعالى ( وجنات ألفافا ) وذلك من محامد الجنات وملاذها .
وجملة ( تلك عقبى الذين اتقوا ) مستأنفة .
والإشارة إلى الجنة بصفاتها بحيث صارت كالمشاهدة والمعنى : تلك هي التي سمعتم أنها عقبى الدار للذين يوفون بعهد الله إلى قوله ( ويدرأون بالحسنة السيئة ) إلى قوله ( فنعم عقبى الدار ) هي الجنة التي وعد المتقون . وقد علم أن الذين اتقوا هم المؤمنون الصالحون كما تقدم . وأول مراتب التقوى الإيمان . وجملة ( وعقبى الكافرين النار ) مستأنفة للمناسبة بالمضادة . وهي كالبيان لجملة ( ولهم سوء الدار ) .
A E ( والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه ) الواو للاستئناف . وهذا استئناف ابتدائي انتقل به إلى فضل لبعض أهل الكتاب في حسن تلقيهم للقرآن بعد الفراغ من ذكر أحوال المشركين من قوله ( كذلك أرسلناك في أمة ) الخ ولذلك جاءت على أسلوبها في التعقيب بجملة ( قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به ) .
والمناسبة هي أن الذين أرسل إليهم بالقرآن انقسموا في التصديق بالقرآن فرقا : ففريق آمنوا بالله وهم المؤمنون وفريق كفروا به وهم مصداق قوله ( وهم يكفرون بالرحمن ) . كما تقدم أنه عائد إلى المشركين المفهومين من المقام كما هو مصطلح القرآن .
وهذا فريق آخر أيضا أهل الكتاب وهو منقسم أيضا في تلقي القرآن فرقتين : فالفريق الأول صدقوا بالقرآن وفرحوا به وهم الذين ذكروا في قوله تعالى ( وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ) في سورة العقود وكلهم من النصارى مثل ورقة بن نوفل وكذلك غيره ممن بلغهم القرآن أيام مقام النبي A بمكة قبل أن تبلغهم دعوة النبي A فإن اليهود كانوا قد سروا بنزول القرآن مصدقا للتوراة وكانوا يحسبون دعوة النبي A مقصورة على العرب فكان اليهود يستظهرون بالقرآن على المشركين قال تعالى ( وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ) . وكان النصارى يستظهرون به على اليهود ؛ وفريق لم يثبت لهم الفرح بالقرآن وهم معظم اليهود والنصارى البعداء عن مكة . وما كفر الفريقان به إلا حين علموا أن دعوة الإسلام عامة