ثم أضرب عن ذلك بجملة ( أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض ) وهي " أم " المنقطعة . ودلت ( أم ) على أن ما بعدها في معنى الاستفهام وهو إنكاري توبيخي أي ما كان لكم أن تفتروا على الله فتضعوا له شركاء لم ينبئكم بوجودهم فقوله ( بما لا يعلم في الأرض ) كناية غير الموجود لأن ما لا يعلمه الله لا وجود له إذ لو كان موجودا لم يخف على علم العلام بكل شيء . وتفقد ذلك ب ( الأرض ) لزيادة تجهيلهم لأنه لو كان يخفي عن علمه شيء لخفي عنه ما لا يرى ولما خفيت عنه موجودات عظيمة بزعمكم .
وفي سورة يونس ( قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا الأرض ) زيادة في التعميم .
و ( أم ) الثانية متصلة هي معادلة همزة الاستفهام المقدرة في ( أم تنبئونه ) . وإعادة الباء للتأكيد بعد " أم " العاطفة . والتقدير : بل أتنبئونه بما لا يعلم في الأرض بل أتنبئونه بظاهر من القول .
وليس الظاهر هنا من الظهور بمعنى الوضوح بل هو مشتق من الظهور بمعنى الزوال كناية عن البطلان أي بمجرد لاثبات له وليس بحق كقول أبي ذؤيب : .
" وتلك شكاة ظاهر عنك عارها وقول سبرة بن عمرو الفقعسي : .
أعيرتنا ألبانها ولحومها ... وذلك عاريا يا ابن ريطة ظاهر وقوله ( بل زين للذين كفروا مكرهم ) إضراب عن الاحتجاج عليهم بإبطال إلهية أصنامهم إلى كشف السبب وهو أن أيمة المشركين زينوا للذين كفروا مكرهم بهم إذ بهم وضعوا لهم عبادتها .
والمكر : إخفاء وسائل الضر, وتقدم عند قوله ( ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ) في أوائل سورة آل عمران وعند قوله ( أفأمنوا مكر الله ) في سورة الأعراف وعند قوله ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ) في سورة الأنفال والمراد هنا أن أيمة الكفر مثل عمرو بن لحي وضعوا للعرب عبادة الأصنام وحسنوها إليهم مظهرين لهم إنها حق ونفع وما أرادوا بذلك إلا أن يكونوا قادة لهم ليسودوهم ويعبوهم .
A E فلما كان الفعل المبني للمجهول يقتضي فاعلا منويا كان قوله ( زين للذين كفروا ) في قوة قولك : زين لهم مزين . والشيء المزين " بالفتح " هو الذي الكلام فيه وهو عبادة الأصنام فهي المفعول في المعنى لفعل التزيين المبني للمجهول فتعين أن المرفوع بعد ذلك الفعل هو المفعول في المعنى فلا جرم أن مكرهم هو المفعول في المعنى فتعين أن المكر مراد به عبادة الأصنام . وبهذا يتجه أن يكون إضافة ( مكر ) إلى ضمير الكفار من إضافة المصدر إلى ما هو في قوة المفعول وهو بباء التعدية أي المكر بهم ممن زينوا لهم .
وقد تضمن هذا الاحتجاج أساليب وخصوصيات : أحدها : توبيخهم على قياسهم أصنامهم على الله في إثبات الإلهية لها قياسا فاسدا لانتفاء الجهة الجامعة فكيف يسوي من هو قائم على كل نفس بمن ليسوا في شيء من ذلك .
ثانيها : تبهيلهم في جعلهم أسماء لا مسميات لها آلهة .
ثالثها : إبطال كون أصنامهم آلهة بأن لا يعلمها آلهة وهو كناية عن انتفاء إلهيتها .
رابعها : أن ادعاءهم آلهة مجرد كلام لا انطباق له مع الواقع وهو قوله ( أم بظاهر من القول ) .
خامسها : أن ذلك تمويه باطل روجه فيهم دعاة الكفر وهو معنى تسميته مكرا في قوله ( بل زين للذين كفروا مكرهم ) .
سادسها : أنهم يصدون الناس عن سبيل الهدى .
وعطف ( وصدوا عن السبيل ) على جملة ( زين للذين كفروا مكرهم ) . وقرأه الجمهور " بفتح الصاد " فهو باعتبار كون مضمون كلتا الجملتين من أحوال المشركين : فالأولى باعتبار كونهم مفعولين والثانية باعتبار كونهم فاعلين للصد بعد أن انفعلوا بالكفر وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف ( وصدوا ) " بضم الصاد " فهو كجملة ( زين للذين كفروا ) في كون مضمون كلتيهما جعل الذين كفروا مفعولا للتزيين والصد .
وجملة ( ومن يضلل الله فما له من هاد ) تذييل لما فيه من العموم .
وتقدم الخلاف بين الجمهور وابن كثير في إثبات ياء ( هاد ) في حالة الوصل عند قوله تعالى ( ولكل قوم هاد ) في هذه السورة .
( لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق [ 34 ] )