وبهذا التفسير تظهر بلاغة التعبير عنهم ب ( يفرحون ) دون " يؤمنون " . وإنما سكنا هذا الوجه بناء على أن هذه السورة مكية كان نزولها قبل أن يسلم عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وبعض نصارى نجران وبعض نصارى اليمن . فإن كانت السورة مدنية أو كان هذا من المدني فلا إشكال . فالمراد بالذين آتيناهم الكتاب الذين أوتوه إيتاء كاملا وهو المجرد عن العصبية لما كانوا عليه وعن الحسد فهو كقوله تعالى ( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ) .
فالأظهر أن المراد بالأحزاب أحزاب الذين أوتوا الكتاب كما جاء في قوله تعالى ( فاختلف الأحزاب من بينهم ) في سورة مريم أي ومن أحزابهم من ينكر بعض القرآن . فاللام عوض عن المضاف إليه . ولعل هؤلاء هم خبثاؤهم ودهاتهم الذين توسموا أن القرآن يبطل شرائعهم فأنكروا بعضه . وهو ما فيه من الإيماء إلى ذلك من إبطال أصول عقائدهم مثل عبودية عيسى " عليه السلام " بالنسبة للنصارى . ونبوءته بالنسبة لليهود .
وفي التعبير عنهم بالأحزاب إيماء إلى أن هؤلاء هم المتحزبون المتصلبون لقومهم ولما كانوا عليه . هكذا كانت حالة اضطراب أهل الكتاب عندما دمغتهم بعثة النبي A وأخذ أمر الإسلام يفشو .
( قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب [ 36 ] ) أمر النبي A أن يعلن للفريقين بأنه ما أمر إلا بتوحيد الله كما في الآية الأخرى ( قل يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ) فمن فرح بالقرآن فليزدد فرحا ومن أنكر بعضه فليأخذ بما لا ينكره وهو عدم الإشراك . وقد كان النصارى يتبرؤون من الشرك ويعدون اعتقاد بنوة عيسى " عليه السلام " غير شرك .
وهذه الآية من مجاراة الخصم واستنزال طائر نفسه كيلا ينفر من النظر . وبهذا التفسير يظهر موقع جملة ( قل إنما أمرت أن أعبد الله ) بعد جملة ( والذين آتيناهم الكتاب يفرحون ) وأنها جواب للفريقين .
وأفادت ( إنما ) أنه لم يؤمر إلا بأن يعبد الله ولا يشرك به أي لا بغير ذلك مما عليه المشركون فهو قصر إضافي دلت عليه القرينة .
ولما كان المأمور به مجموع شيئين : عبادة الله وعدم الإشراك به في ذلك آل المعنى : أني ما أمرت إلا بتوحيد الله .
ومن بلاغة الجدل القرآني أنه لم يأت بذلك من أول الكلام بل أتى به متدرجا فيه فقال ( أن أعبد الله ) لأنه لا ينازع في ذلك أحد من أهل الكتاب ولا المشركين ثم جاء بعده ( ولا أشرك ) به لإبطال إشراك المشركين وللتعريض بإبطال إلهية عيسى " عليه السلام " لأن ادعاء بنوته من الله تعالى يؤول إلى الإشراك .
A E وجملة ( إليه أدعو وإليه مئاب ) بيان لجملة ( إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به ) أي أن أعبده وأن أدعو الناس إلى ذلك لأنه لما أمر بذلك من قبل الله استفيد أنه مرسل من الله فهو مأمور بالدعوة إليه .
وتقديم المجرور في الموضعين للاختصاص أي إليه لا إلى غيره أدعو أي بهذا القرآن وإليه لا إلى غيره مئابي فإن المشركين يرجعون في مهمهم إلى الأصنام يستنصرونها ويستغيثونها وليس في قوله هذا ما ينكره أهل الكتاب إذ هو مما كانوا فيه سواء مع الإسلام . على أن قوله ( وإليه مئاب ) يعم الرجوع في الآخرة وهو البعث . وهذا من وجوه الوفاق في أصل الدين بين الإسلام واليهودية والنصرانية .
وحذف ياء المتكلم من ( مئابي ) كحذفها في قوله ( عليه توكلت وإليه متاب ) وقد مضى قريبا .
( وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهوائهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق [ 37 ] ) اعتراض وعطف على جملة ( والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ) . لما ذكر حال تلقي أهل الكتابين للقرآن عند نزوله عرج على حال العرب في ذلك بطريقة التعريض بسوء تلقي مشركيه له مع أنهم أولى الناس بحسن تلقيه إذ نزل بلسانهم مشتملا على ما فيه صلاحهم وتنوير عقولهم . وقد جعل أهم هذا الغرض التنويه بعلو شأن القرآن لفظا معنى . وأدمج في ذلك تعريض بالمشركين من العرب .
والقول في اسم الإشارة في قوله ( وكذلك ) مثل ما تقدم في قوله ( كذلك أرسلناك في أمة ) .
وضمير الغائب في ( أنزلناه ) عائد إلى ( ما أنزل إليك ) في قوله ( يفرحون بما انزل إليك )