ثم فرض لهما مفاضلة بين مجموع الحالين حال الإله المنفرد بالإلهية والأحوال المتفرقة للآلهة المتعددين ليصل بذلك إلى إقناعهما بأن حال المنفرد بالإلهية أعظم وأغنى فيرجعان عن اعتقاد تعدد الآلهة . وليس المراد من هذا الاستدلال وجود الحالين في الإلهية والمفاضلة بين أصحاب هذين الحالين لأن المخاطبين لا يؤمنون بوجود الإله الواحد .
هذا إذا حمل لفظ ( خير ) على ظاهر المتعارف منه وهو التفضيل بين مشتركات في صفة . ويجوز أن يكون ( خير ) مستعملا في معنى الخير عند العقل أي الرجحان والقبول . والمعنى : اعتقاد وجود أرباب متفرقين أرجح أم اعتقاد أنه لا يوجد إلا إله واحد ليستنزل بذلك طائر نظرهما واستدلالهما حتى ينجلي لهما فساد اعتقاد تعدد الآلهة إذ يتبين لهما أن أربابا متفرقين لا يخلو حالهم من تطرق الفساد والخلل في تصرفهم كما يومئ إليه وصف التفرق بالنسبة للتعدد ووصف القهار بالنسبة للوحدانية .
وكانت ديانة القبط في سائر العصور التي حفظها التاريخ وشهدت بها الآثار ديانة شرك أي تعدد الآلهة . وبالرغم على ما يحاوله بعض المؤرخين المصريين والإفرنج من إثبات اعتراف القبط بإله واحد وتأويلهم لهم تعدد الآلهة بأنها رموز للعناصر فإنهم لم يستطيعوا أن يثبتوا إلا أن هذا الإله هو معطي التصرف للآلهة الأخرى . وذلك هو شأن سائر أديان الشرك فإن الشرك ينشأ عن مثل ذلك الخيال فيصبح تعدد آلهة . والأمم الجاهلة تتخيل هذه الاعتقادات من تخيلات نظام ملوكها وسلاطينها وهو النظام الإقطاعي القديم .
نعم إن القبط بنوا تعدد الآلهة على تعدد القوى والعناصر وبعض الكواكب ذات القوى . ومثلهم الإغريق فهم في ذلك أحسن حالا من مشركي العرب الذين ألهوا الحجارة . وقصارى ما قسموه في عبادتها أن جعلوا بعضها آلهة لبعض القبائل كما قال الشاعر : .
" وفرت ثقيف إلى لاتها وأحسن حالا من الصابئة الكلدان والآشوريين الذين جعلوا الآلهة رموزا للنجوم والكواكب .
وكانت آلهة القبط نحوا من ثلاثين ربا أكبرها عندهم آمون رع . ومن أعظم آلهتهم ثلاثة أخر وهي : أوزوريس وأزيس وهوروس . فلله بلاغة القرآن إذ عبر عن تعددها بالتفرق فقال ( أأرباب متفرقون ) .
A E وبعد أن أثار لهما الشك في صحبة إلهية آلهتهم المتعددين انتقل إلى إبطال وجود تلك الآلهة على الحقيقة بقوله ( ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ) يعني أن تلك الآلهة لا تحقق لحقائقها في الوجود الخارجي بل هي توهمات تخيلوها .
ومعنى قصرها على أنها أسماء قصرا إضافيا أنها أسماء لا مسميات لها فليس لها في الوجود إلا أسماؤها .
وقوله ( أنتم وآباؤكم ) جملة مفسرة للضمير المرفوع في ( سميتموها ) . والمقصود من ذلك الرد على آبائهم سدا لمنافذ الاحتجاج لأحقيتها بأن تلك الآلهة معبودات آبائهم وإدماجا لتلقين المعذرة لهما ليسهل لهما الإقلاع عن عبادة آلهة متعددة .
وإنزال السلطان : كناية عن إيجاد دليل إلهيتها في شواهد العالم . والسلطان : الحجة .
وجملة ( إن الحكم إلا لله ) إبطال لجميع التصرفات المزعومة لآلهتهم بأنها لا حكم لها فيما زعموا أنه من حكمها وتصرفها .
وجملة ( أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ) انتقال من أدلة إثبات انفراد الله تعالى بالإلهية إلى التعليم بامتثال أمره ونهيه لأن ذلك نتيجة لإثبات الإلهية والوحدانية له فهي بيان لجملة ( إن الحكم إلا لله ) من حيث ما فيها من معنى الحكم .
وجملة ( ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) خلاصة لما تقدم من الاستدلال أي ذلك الدين لا غيره مما أنتم عليه وغيركم . وهو بمنزلة رد العجز على الصدر لقوله ( إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله ) إلى ( لا يشكرون ) .
( يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان [ 41 ] ) افتتح خطابهما بالنداء اهتماما بما يلقيه إليهما من التعبير وخاطبهما بوصف ( صاحبي السجن ) أيضا