ثم إذا كان الكلام المحكي عن يوسف عليه السلام في الآية صدر منه على نحو النظم الذي نظم به في الآية وهو الظاهر كان جمع التأويل في عبارة واحدة مجملة لأن في تأويل إحدى الرؤيين ما يسوء صاحبها قصدا لتلقيه ما يسوء بعد تأمل قليل كيلا يفجأه من أول الكلام فإنه بعد التأمل يعلم أن الذي يسقي ربه خمرا هو رائي عصر الخمر وأن الذي تأكل الطير من رأسه هو رائي أكل الطير من خبز على رأسه .
وإذا كان نظم الآية على غير ما صدر من يوسف عليه السلام كان في الآية إيجاز لحكاية كلام يوسف عليه السلام وكان كلاما معينا فيه كل من الفتيين بأن قال : أما أنت فكيت وكيت وأما أنت فكيت وكيت فحكي في الآية بالمعنى .
وجملة ( قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ) تحقيق لما دلت عليه الرؤيا وأن تعبيرها هو ما أخبرهما به فإنهما يستفتيان في دلالة الرؤيا على ما سيكون في شأن سجنهما لأن ذلك أكبر همهما فالمراد بالأمر تعبير رؤياهما .
والاستفتاء : مصدر استفتى إذا طلب الإفتاء . وهو : الإخبار بإزالة مشكل أو إرشاد إلى إزالة حيرة . وفعله أفتى ملازم للهمز ولم يسمع له فعل مجرد فدل ذلك على أن همزه في الأصل مجتلب لمعنى قالوا : أصل اشتقاق أفتى من الفتى وهو الشاب فكأن الذي يفتيه يقوي نهجه ببيانه فيصير بقوة بيانه فتيا أي قويا . واسم الخبر الصادر من المفتي : فتوى بفتح الفاء وبضمها مع الواو مقصورا وبضم الفاء مع الياء مقصورا .
( وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنسه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين [ 42 ] ) قال يوسف عليه السلام للذي ظن نجاته من الفتيين وهو الساقي . والظن هنا مستعمل في القريب من القطع لأنه لا يشك في صحة تعبيره الرؤيا . وأراد بذكره ذكر قضيته ومظلمته أي اذكرني لربك أي سيدك . وأراد بربه ملك مصر .
A E وضميرا ( فأنساه ) و ( ربه ) يحتملان العود إلى ( الذي ) أي أنسى الشيطان الذي نجا أن يذكره لربه فالذكر الثاني هو الذكر الأول . ويحتمل أن يعود الضميران إلى ما عاد إليه ضمير ( وقال ) أي يوسف عليه السلام أنساه الشيطان ذكر الله فالذكر الثاني غير الذكر الأول . ولعل كلا الاحتمالين مراد وهو من بديع الإيجاز . وذلك أن نسيان يوسف عليه السلام أن يسأل الله إلهام الملك تذكر شأنه كان من إلقاء الشيطان في أمنيته وكان ذلك سببا إلهيا في نسيان الساقي تذكير الملك وكان ذلك عتابا إلهيا ليوسف عليه السلام على اشتغاله بعون العباد دون استعانة ربه على خلاصه .
ولعل في إيراد هذا الكلام على هذا التوجيه تلطفا في الخبر عن يوسف عليه السلام لأن الكلام الموجه في المعاني الموجهة ألطف من الصريح .
والبضع : من الثلاث إلى التسع .
وفيما حكاه القرآن عن حال سجنهم ما ينبئ على أن السجن لم يكن مضبوطا بسجل يذكر فيه أسماء المساجين وأسباب سجنهم والمدة المسجون إليها ولا كان من وزعة السجون ولا ممن فوقهم من يتعهد أسباب السجن ويفتقد أمر المساجين ويرفع إلى الملك في يوم من الأسبوع أو من العام . وهذا من الإهمال والتهاون بحقوق الناس وقد أبطله الإسلام فإن من الشريعة أن ينظر القاضي أول ما ينظر فيه كل يوم أمر المساجين .
( وقال الملك إني أرى سبع بقرت سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون [ 43 ] قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين [ 44 ] وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنبئكم بتأويله فأرسلون [ 45 ] ) هذا عطف جزء من قصة على جزء منها تكملة لوصف خلاص يوسف عليه السلام من السجن