فنسبة الإشارة إلى لفظ القرآن مجازية لأنها إنما تشير لمن استعدت عقولهم وتدبرهم في حال من الأحوال الثلاثة ولا ينتفع بها غير أولئك فلما كانت آيات القرآن قد أنارت تدبرهم وأثارت اعتبارهم نسبوا تلك الإشارة للآية . فليست تلك الإشارة هي حق الدلالة اللفظية والاستعمالية حتى تكون من لوازم اللفظ وتوابعه كما قد تبين . وكل إشارة خرجت عن حد هذه الثلاثة الأحوال إلى ما عداها فهي تقترب إلى قول الباطنية رويدا رويدا إلى أن تبلغ عين مقالاتهم وقد بصرناكم بالحد الفارق بينهما فإذا رأيتم اختلاطه فحققوا مناطه وفي أيديكم فيصل الحق فدونكم اختراطه .
وليس من الإشارة ما يعرف في الأصول بدلالة الإشارة وفحوى الخطاب وفهم الاستغراق من لام التعريف في المقام الخطابي ودلالة التضمن والالتزام كما أخذ العلماء من تنبيهات القرآن استدلالا لمشروعية أشياء كاستدلالهم على مشروعية الوكالة من قوله تعالى ( فابعثوا أحدكم بورقكم هذه ) ومشروعية الضمان من قوله ( وأنا به زعيم ) . ومشروعية القياس من قوله ( لتحكم بين الناس بما أراك الله ) ولا بما هو بالمعنى المجازي نحو ( يا جبال أوبي معه ) و ( فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) ولا ما هو من تنزيل الحال منزلة المقال نحو ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) لأن جميع هذا مما قامت فيه الدلالة العرفية مقام الوضعية واتحدت في إدراكه أفهام أهل العربية فكان من المدلولات التبعية .
قال في الكشاف : وكم من آية أنزلت في شأن الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين تدبرا لها واعتبارا بموردها . يعني أنها في شأن الكافرين من دلالة العبارة وفي شأن المؤمنين من دلالة الإشارة .
هذا وإن واجب النصح في الدين والتنبيه إلى ما يغفل عنه المسلمون مما يحسبونه هينا وهو عند الله عظيم قضي علي أن أنبه إلى خطر أمر تفسير الكتاب والقول فيه دون مستند من نقل صحيح عن أساطين المفسرين أو إبداء تفسير أو تأويل من قائله إذا كان القائل توفرت فيه شروط الضلاعة في العلوم التي سبق ذكرها في المقدمة الثانية .
فقد رأينا تهافت كثير من الناس على الخوض في تفسير آيات من القرآن فمنهم من يتصدى لبيان معنى الآيات على طريقة كتب التفسير ومنهم من يضع الآية ثم يركض في أساليب المقالات تاركا معنى الآية جانبا جالبا من معاني الدعوة والموعظة ما كان جالبا وقد دلت شواهد الحال على ضعف كفاية البعض لهذا العمل العلمي الجليل فيجب على العاقل أن يعرف قدره وأن لا يتعدى طوره وأن يرد الأشياء إلى أربابها كي لا يختلط الخاثر بالزباد ولا يكون في حالك سواد وإن سكوت العلماء على ذلك زيادة في الورطة وإفحاش لأهل هذه الغلطة فمن يركب متن عمياء ويخبط خبط عشواء فحق على أساطين العلم تقويم اعوجاجه وتمييز حلوه من أجاجه تحذيرا للمطالع وتنزيلا في البرج والطالع .
المقدمة الرابعة .
فيما يحق أن يكون غرض المفسر .
كأني بكم وقد مر على أسماعكم ووعت ألبابكم ما قررته من استمداد علم التفسير ومن صحة تفسير القرآن بغير المأثور ومن الإنحاء على من يفسر القرآن بما يدعيه باطنا ينافي مقصود القرآن ومن التفرقة بين ذلك وبين الإشارات تتطلعون بعد إلى الإفصاح عن غاية المفسر من التفسير وعن معرفة المقاصد التي نزل القرآن لبيانها حتى تستبين لكم غاية المفسرين من التفسير على اختلاف طرائقهم وحتى تعلموا عند مطالعة التفاسير مقادير اتصال ما تشتمل عليه بالغاية التي يرمي إليها المفسر فتزنوا بذلك مقدار ما أوفى به من المقصد ومقدار ما تجاوزه ثم ينعطف القول إلى التفرقة بين من يفسر القرآن بما يخرج عن الأغراض المرادة منه وبين من يفصل معانيه تفصيلا ثم ينعطف القول إلى نموذج مما استخرجه العلماء من مستنبطات القرآن في كثير من العلوم .
A E