إن القرآن أنزله الله تعالى كتابا لصلاح أمر الناس كافة رحمة لهم لتبليغهم مراد الله منهم قال الله تعالى ( وأنزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ) فكان المقصد الأعلى منه صلاح الأحوال الفردية والجماعية والعمرانية . فالصلاح الفردي يعتمد تهذيب النفس وتزكيتها ورأس الأمر فيه صلاح الاعتقاد لأن الاعتقاد مصدر الآداب والتفكير ثم صلاح السريرة الخاصة وهي العبادات الظاهرة كالصلاة والباطنة كالتخلق بترك الحسد والحقد والكبر . وأما الصلاح الجماعي فيحصل أولا من الصلاح الفردي إذ الأفراد أجزاء المجتمع ولا يصلح الكل إلا بصلاح أجزائه ومن شيء زائد على ذلك وهو ضبط تصرف الناس بعضهم مع بعض على وجه يعصمهم من مزاحمة الشهوات ومواثبة القوى النفسانية . وهذا هو علم المعاملات ويعبر عنه عند الحكماء بالسياسة المدنية .
وأما الصلاح العمراني فهو أوسع من ذلك إذ هو حفظ نظام العالم الإسلامي وضبط تصرف الجماعات والأقاليم بعضهم مع بعض على وجه يحفظ مصالح الجميع ورعي المصالح الكلية الإسلامية وحفظ المصلحة الجامعة عند معارضة المصلحة القاصرة لها ويسمى هذا بعلم العمران وعلم الاجتماع .
فمراد الله من كتابه هو بيان تصاريف ما يرجع إلى حفظ مقاصد الدين وقد أودع ذلك في ألفاظ القرآن التي خاطبنا بها خطابا بينا وتعبدنا بمعرفة مراده والاطلاع عليه فقال : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب ) سواء قلنا إنه يمكن الاطلاع على تمام مراد الله تعالى وهو قول علمائنا والمشائخي والسكاكي وهما من المعتزلة أم قال قائل بقول بقية المعتزلة إن الاطلاع على تمام مراد الله تعالى غير ممكن " وهو خلاف لا طائل تحته " إذ القصد هو الإمكان الوقوعي لا العقلي فلا مانع من التكليف باستقصاء البحث عنه بحسب الطاقة ومبلغ العلم مع تعذر الاطلاع على تمامه .
وقد اختار الله تعالى أن يكون اللسان العربي مظهرا لوحيه ومستودعا لمراده وأن يكون العرب هم المتلقين أولا لشرعه وإبلاغ مراده لحكمة علمها : منها كون لسانهم أفصح الألسن وأسهلها انتشارا وأكثرها تحملا للمعاني مع أيجاز لفظه ولتكون الأمة المتلقية للتشريع والناشرة له أمة قد سلمت من أفن الرأي عند المجادلة ولم تقعد بها عن النهوض أغلال التكالب على الرفاهية ولا عن تلقي الكمال الحقيقي إذ يسبب لها خلطه بما يجر إلى اضمحلاله فيجب أن تعلموا قطعا أن ليس المراد من خطاب العرب بالقرآن أن يكون التشريع قاصرا عليهم أو مراعيا لخاصة أحوالهم بل إن عموم الشريعة ودوامها وكون القرآن معجزة دائمة مستمرة على تعاقب السنين ينافي ذلك نعم إن مقاصده تصفية نفوس العرب الذين اختارهم كما قلنا لتلقي شريعته وبثها ونشرها فهم المخاطبون ابتداءا قبل بقية أمة الدعوة فكانت أحوالهم مرعية لا محالة وكان كثير من القرآن مقصودا به خطابهم خاصة وإصلاح أحوالهم قال تعالى ( ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ) وقال ( أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم ) لكن ليس ذلك بوجه للاقتصار على أحوالهم كما سيأتي .
أليس قد وجب على الآخذ في هذا الفن أن يعلم المقاصد الأصلية التي جاء القرآن لتبيانها فلنلم بها الآن بحسب ما بلغ إليه استقراؤنا وهي ثمانية أمور : الأول : إصلاح الاعتقاد وتعليم العقد الصحيح . وهذا أعظم سبب لإصلاح الخلق لأنه يزيل عن النفس عادة الإذعان لغير ما قام عليه الدليل ويطهر القلب من الأوهام الناشئة عن الإشراك والدهرية وما بينهما وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى ( فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب ) فأسند لآلهتهم زيادة تتبيبهم وليس هو من فعل الآلهة ولكنه من آثار الاعتقاد بالآلهة .
A E