أما ما يتكلم به أهل الإشارات من الصوفية في بعض آيات القرآن من معان لا تجري على ألفاظ القرآن ولكن بتأويل ونحوه فينبغي أن تعلموا أنهم ما كانوا يدعون أن كلامهم في ذلك تفسير للقرآن بل يعنون أن الآية تصلح للتمثل بها في الغرض المتكلم فيه وحسبكم في ذلك أنهم سموها إشارات ولم يسموها معاني فبذلك فارق قولهم قول الباطنية . ولعلماء الحق فيها رأيان : فالغزالي يراها مقبولة قال في كتاب من الإحياء : إذا قلنا فى قوله A " لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة " فهذا ظاهره أو إشارته أن القلب بيت وهو مهبط الملائكة ومستقر آثارهم والصفات الرديئة كالغضب والشهوة والحسد والحقد والعجب كلاب نابحة في القلب فلا تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب ونور الله لا يقذفه في القلب إلا بواسطة الملائكة فقلب كهذا لا يقذف فيه النور . وقال : ولست أقول إن المراد من الحديث بلفظ البيت القلب وبالكلب الصفة المذمومة ولكن أقول هو تنبيه عليه وفرق بين تغيير الظاهر وبين التنبيه على البواطن من ذكر الظواهر ا ه . فبهذه الدقيقة فارق نزعة الباطنية . ومثل هذا قريب من تفسير لفظ عام في آية بخاص من جزئياته كما وقع في كتاب المغازي من صحيح البخاري عن عمرو بن عطاء في قوله تعالى ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا ) قال هم كفار قريش ومحمد نعمة الله ( وأحلوا قومهم دار البوار ) قال يوم بدر : وابن العربي في كتاب العواصم يرى إبطال هذه الإشارات كلها حتى أنه بعد أن ذكر نحلة الباطنية وذكر رسائل إخوان الصفاء أطلق القول في إبطال أن يكون للقرآن باطن غير ظاهره وحتى أنه بعد ما نوه بالثناء على الغزالي في تصديه للرد على الباطنية والفلاسفة قال : " وقد كان أبو حامد بدرا في ظلمة الليالي وعقدا في لبة المعالي حتى أوغل في التصوف وأكثر معهم التصرف فخرج عن الحقيقة وحاد في أكثر أقواله عن الطريقة " اه .
وعندي إن هذه الإشارات لا تعدو واحدا من ثلاثة أنحاء : الأول ما كان يجري فيه معنى الآية مجرى التمثيل لحال شبيه بذلك المعنى كما يقولون مثلا " ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه " أنه إشارة للقلوب لأنها مواضع الخضوع لله تعالى إذ بها يعرف فتسجد له القلوب بفناء النفوس . ومنعها من ذكره هو الحيلولة بينها وبين المعارف اللدنية وسعى في خرابها بتكديرها بالتعصبات وغلبة الهوى فهذا يشبه ضرب المثل لحال من لا يزكي نفسه بالمعرفة ويمنع قلبه أن تدخله صفات الكمال الناشئة عنها بحال مانع المساجد أن يذكر فيها اسم الله وذكر الآية عند تلك الحالة كالنطق بلفظ المثل ومن هذا قولهم في حديث " لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب " كما تقدم عن الغزالي . الثاني : ما كان من نحو التفاؤل فقد يكون للكلمة معنى يسبق من صورتها إلى السمع هو غير معناها المراد وذلك من باب انصراف ذهن السامع إلى ما هو المهم عنده والذي يجول في خاطره وهذا كمن قال في قوله تعالى ( من ذا الذي يشفع ) من ذل ذي إشارة للنفس يصير من المقربين للشفعاء فهذا يأخذ صدى موقع الكلام في السمع ويتأوله على ما شغل به قلبه . ورأيت الشيخ محي الدين يسمي هذا النوع سماعا ولقد أبدع . الثالث : عبر ومواعظ وشأن أهل النفوس اليقظى أن ينتفعوا من كل شيء ويأخذوا الحكمة حيث وجدوها فما ظنك بهم إذا قرأوا القرآن وتدبروه فاتعظوا بمواعظه فإذا أخذوا من قوله تعالى ( فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا ) اقتبسوا أن القلب الذي لم يمتثل رسول المعارف العليا تكون عاقبته وبالا . ومن حكاياتهم في غير باب التفسير أن بعضهم مر برجل يقول لآخر : هذا العود لا ثمرة فيه فلم يعد صالحا إلا للنار فجعل يبكي ويقول : إذن فالقلب غير المثمر لا يصلح إلا للنار .
A E