وجملة ( لا ريب ) أن كان الوقف على قوله ( لا ريب ) تعريض بكل المرتابين فيه من المشركين وأهل الكتاب أي أن الارتياب في هذا الكتاب نشأ عن المكابرة وأن لا ريب فإنه الكتاب الكامل وإن كان الوقف على قوله ( فيه ) كان تعريضا بأهل الكتاب في تعلقهم بمحرف كتابيهم مع ما فيهما من مثار الريب والشك من الاضطراب الواضح الدال على أنه من صنع الناس قال تعالى ( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) .
وقال في الكشاف ثم لم تخل كل واحدة من هذه الأربع بعد أن نظمت هذا التنظيم السري من نكتة ذات جزالة : ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر - وهو الهدى - موضع الوصف وإيراده منكرا والإيجاز في ذكر المتقين ا ه .
فالتقوى إذن بهذا المعنى هي أساس الخير وهي بالمعنى الشرعي الذي هو غاية المعنى اللغوي جماع الخيرات . قال ابن العربي لم يتكرر لفظ في القرآن مثلما تكرر لفظ التقوى اهتماما بشأنها .
( الذين يؤمنون بالغيب ) يتعين أن يكون كلاما متصلا بقوله ( للمتقين ) على أنه صفة لإرداف صفتهم الإجمالية بتفصيل يعزف به المراد ويكون مع ذلك مبدأ استطراد لتصنيف أصناف الناس بحسب اختلاف أحوالهم في تلقي الكتاب المنوه به إلى أربعة أصناف بعد أن كانوا قبل الهجرة صنفين فقد كانوا قبل الهجرة صنفا مؤمنين وصنفا كافرين مصارحين فزاد بعد الهجرة صنفان : هما المنافقون وأهل الكتاب فالمشركون الصرحاء هم أعداء الإسلام الأولون والمنافقون ظهروا بالمدينة فاعتز بهم الأولون الذين تركهم المسلمون بدار الكفر وأهل الكتاب كانوا في شغل عن التصدي لمناوأة الإسلام فلما أصبح الإسلام في المدينة بجوارهم أوجسوا خيفة فالتفوا مع المنافقين وظاهروا المشركين . وقد أشير إلى أن المؤمنين المتقين فريقان : فريق هم المتقون الذين أسلموا ممن كانوا مشركين وكان القرآن هدى لهم بقرينة مقابلة هذا الموصول بالموصول الآخر المعطوف بقوله ( والذين يؤمنون بما أنزل إليك الخ ) فالمثني عليهم هنا هم الذين كانوا مشركين فسمعوا الدعوة المحمدية فتدبروا في النجاة واتقوا عاقبة الشرك فآمنوا فالباعث الذي بعثهم على الإسلام هو التقوى دون الطمع أو التجربة فوائل بن حجر مثلا لما جاء من اليمن راغبا في الإسلام هو من المتقين ومسيلمة حين وفد مع بني حنيفة مضمر العداء طامعا في الملك هو من غير المتقين . وفريق آخر يجيء ذكره بقوله ( والذين يؤمنون بما أنزل إليك ) الآيات . وقد أجريت هذه الصفات للثناء على الذين آمنوا بعد الإشراك بأن كان رائدهم إلى الإيمان هو التقوى والنظر في العاقبة ولذلك وصفهم بقوله يؤمنون بالغيب أي بعد أن كانوا يكفرون بالبعث والمعاد كما حكى عنهم القرآن في آيات كثيرة ولذلك اجتلبت في الإخبار عنهم بهذه الصلات الثلاث صيغة المضارع الدالة على التجدد إيذانا بتجدد إيمانهم بالغيب وتجدد إقامتهم الصلاة والإنفاق إذ لم يكونوا متصفين بذلك إلا بعد أن جاءهم هدى القرآن . وجوز صاحب الكشاف كونه كلاما مستأنفا مبتدأ وكون ( أولئك على هدى ) خبره . وعندي أنه تجويز لما لا يليق إذ الاستئناف يقتضي الانتقال من غرض إلى آخر وهو المسمى بالاقتضاب وإنما يحسن في البلاغة إذا أشيع الغرض الأول وأفيض فيه حتى أوعب أو حتى خيفت سآمة السامع وذلك موقع أما بعد أو كلمة هذا ونحوهما وإلا كان تقصيرا من الخطيب والمتكلم لا سيما وأسلوب الكتاب أوسع من أسلوب الخطابة لأن الإطالة في أغراضه أمكن .
والغيب مصدر بمعنى الغيبة ( ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ) ( ليعلم الله من يخافه بالغيب ) وربما قالوا بظهر الغيب قال الحطيئة : .
كيف الهجاء وما تنفك صالحة ... من آل لام بظهر الغيب تأتيني A E