والمتقي من اتصف بالاتقاء وهو طلب الوقاية والوقاية الصيانة والحفظ من المكروه فالمتقي هو الحذر المتطلب للنجاة من شيء مكروه مضر والمراد هنا المتقين الله أي الذين هم خائفون غضبه واستعدوا لطلب مرضاته واستجابة طلبه فإذا قرئ عليهم القرآن استمعوا له وتدبروا ما يدعو إليه فاهتدوا .
والتقوى الشرعية هي امتثال الأوامر واجتناب المنهيات من الكبائر وعدم الاسترسال على الصغائر ظاهرا وباطنا أي اتقاء ما جعل الله الاقتحام فيه موجبا غضبه وعقابه فالكبائر كلها متوعد فاعلها بالعقاب دون اللمم .
والمراد من الهدى ومن المتقين في الآية معناهما اللغوي فالمراد أن القرآن من شأنه الإيصال إلى المطالب الخيرية وأن المستعدين للوصول به إليها هم المتقون أي هم الذين تجردوا عن المكابرة ونزهوا أنفسهم عن حضيض التقليد للمضلين وخشوا العاقبة وصانوا أنفسهم من خطر غضب الله هذا هو الظاهر والمراد بالمتقين المؤمنون الذين آمنوا بالله وبمحمد وتلقوا القرآن بقوة وعزم على العمل به كما ستكشف عنهم الأوصاف الآتية في قوله تعالى ( الذين يؤمنون بالغيب ) إلى قوله ( من قبلك ) .
وفي بيان كون القرآن هدى وكيفية صفة المتقي معان ثلاثة : الأول أن القرآن هدى في زمن الحال لأن الوصف بالمصدر عوض عن الوصف باسم الفاعل وزمن الحال هو الأصل في اسم الفاعل والمراد حال النطق . والمتقون هم المتقون في الحال أيضا لأن اسم الفاعل حقيقة في الحال كما قلنا أي أن جميع من نزه نفسه وأعدها لقبول الكمال يهديه هذا الكتاب أو يزيده هدى كقوله تعالى ( والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ) . الثاني أنه هدى في الماضي أي حصل به هدى أي بما نزل من الكتاب فيكون المراد من المتقين من كانت التقوى شعارهم أي أن الهدى ظهر أثره فيهم فاتقوا وعليه فيكون مدحا للكتاب بمشاهدة هديه وثناء على المؤمنين الذين اهتدوا به . وإطلاق المتقين على المتصفين بالتقوى فيما مضى وإن كان غير الغالب في الوصف باسم الفاعل إطلاق يعتمد على قرينة سياق الثناء على الكتاب . الثالث أنه هدى في المستقبل للذين سيتقون في المستقبل وتعين عليه هنا قرينة الوصف بالمصدر في " هدى " لأن المصدر لا يدل على زمان معين .
حصل من وصف الكتاب بالمصدر من وفرة المعاني ما لا يحصل لو وصف باسم الفاعل فقيل هاد للمتقين فهذا ثناء على القرآن وتنويه به وتخلص للثناء على المؤمنين الذين انتفعوا بهديه فالقرآن لم يزل ولن يزال هدى للمتقين فإن جميع أنواع هدايته نفعت المتقين في سائر مراتب التقوى وفي سائر أزمانه وأزمانهم على حسب حرصهم ومبالغ علمهم واختلاف مطالبهم فمن منتفع بهديه في الدين . ومن منتفع في السياسة وتدبير أمور الأمة . ومن منتفع به في الأخلاق والفضائل ومن منتفع به في التشريع والتفقه في الدين . وكل أولئك من المتقين وانتفاعهم به على حسب مبالغ تقواهم . وقد جعل أئمة الأصول الاجتهاد في الفقه من التقوى فاستدلوا على وجوب الاجتهاد بقوله تعالى ( فاتقوا الله ما استطعتم ) فإن قصر بأحد سعيه عن كمال الانتفاع به فإنما ذلك لنقص فيه لا في الهداية ولا يزال أهل العلم والصلاح يتسابقون في التحصيل على أوفر ما يستطيعون من الاهتداء بالقرآن .
وتلتئم الجمل الأربع كمال الالتئمام : فإن جملة " الم " تسجيل لإعجاز القرآن وإنحاء على عامة المشركين عجزهم عن معارضته وهو مؤلف من حروف كلامهم وكفى بهذا نداء على تعنتهم .
وجملة ( ذلك الكتاب ) تنويه بشأنه وأنه بالغ حد الكمال في أحوال الكتب فذلك موجه إلى الخاصة من العقلاء أن يقول لهم هذا كتاب مؤلف من حروف كلامهم وهو بالغ حد الكمال من بين الكتب فكان ذلك مما يوفر دواعيكم على اتباعه والافتخار بأن منحتموه فإنكم تعدون أنفسكم أفضل الأمم فكيف لا تسرعون إلى متابعة كتاب نزل فيكم هو أفضل الكتب فوزان هذا وزان قوله تعالى ( أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) إلى قوله ( ورحمة ) وموجه إلى أهل الكتاب بإيقاظهم إلى أنه أفضل مما أوتوه .
A E