وفي الحديث " دعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب مستجابة " . والمراد بالغيب ما لا يدرك بالحواس مما أخبر الرسول A صريحا بأنه واقع أو سيقع مثل وجود الله وصفاته ووجود الملائكة والشياطين وأشراط الساعة وما أستأثر الله بعلمه . فإن فسر الغيب بالمصدر أي الغيبة كانت الباء للملابسة ظرفا مستقرا فالوصف تعريض بالمنافقين وإن فسر الغيب بالاسم وهو ما غاب عن الحس من العوالم العلوية والأخروية كانت الباء متعلقة بيؤمنون فالمعنى حينئذ : الذين يؤمنون بما أخبر الرسول من غير عالم الشهادة كالإيمان بالملائكة والبعث والروح ونحو ذلك . وفي حديث الإيمان ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره ) . وهذه كلها من عوالم الغيب كان الوصف تعريضا بالمشركين الذين أنكروا البعث وقالوا ( هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد ) فجمع هذا الوصف بالصراحة ثناء على المؤمنين وبالتعريض ذما للمشركين بعدم الاهتداء بالكتاب وذما للمنافقين الذين يؤمنون بالظاهر وهم مبطنون الكفر وسيعقب هذا التعريض بصريح وصفهم في قوله ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم ) الآيات وقوله ( ومن الناس من يقول آمنا بالله ) . ويؤمنون معناه يصدقون وآمن مزيد أمن وهمزته المزيدة دلت على التعدية فأصل آمن تعدية أمن ضد خاف فآمن معناه جعل غيره آمنا ثم أطلقوا آمن على معنى صدق ووثق حكى أبو زيد عن العرب " ما آمنت أن أجد صحابة " يقوله المسافر إذا تأخر عن السفر فصار آمن بمعنى صدق على تقدير أنه آمن مخبره من أن يكذبه أو على تقدير أنه آمن نفسه من أن تخاف من كذب الخبر مبالغة في أمن كأقدم على الشيء بمعنى تقدم إليه وعمد إليه ثم صار فعلا قاصرا إما على مراعاة حذف المفعول لكثرة الاستعمال بحيث نزل الفعل منزلة اللازم وإما على مراعاة المبالغة المذكورة أي حصل له الأمن أي من الشك واضطراب النفس واطمأن لذلك لأن معنى الأمن والاطمئنان متقارب ثم إنهم يضمنون آمن معنى أقر فيقولون آمن بكذا أي أقربه كما في هذه الاية ويضمنونه معنى اطمأن فيقولون آمن له ( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ) .
ومجيء صلة الموصول فعلا مضارعا لإفادة أن إيمانهم مستمر متجدد كما علمت آنفا أي لا يطرأ على إيمانهم شك ولا ريبة .
وخص بالذكر الإيمان بالغيب دون غيره من متعلقات الإيمان لأن الإيمان بالغيب أي ما غاب عن الحس هو الأصل في اعتقاد إمكان ما تخبر به الرسل عن وجود الله والعالم العلوي فإذا آمن به المرء تصدى لسماع دعوة الرسول وللنظر فيما يبلغه عن الله تعالى فسهل عليه إدراك الأدلة وأما من يعتقد أن ليس وراء عالم الماديات عالم آخر وهو ما وراء الطبيعة فقد راض نفسه على الإعراض عن الدعوة إلى الإيمان بوجود الله وعالم الآخرة كما كان حال الماديين وهم المسمون بالدهريين الذين قالوا ( وما يهلكنا إلا الدهر ) وقريب من اعتقادهم اعتقاد المشركين ولذلك عبدوا الأصنام المجسمة ومعظم العرب كانوا يثبتون من الغيب وجود الخالق وبعضهم يثبت الملائكة ولا يؤمنون بسوى ذلك . والكلام على حقيقة الإيمان ليس هذا موضعه ويجيء عند قوله تعالى ( وما هم بمؤمنين ) .
( ويقيمون الصلوة ) الإقامة مصدر أقام الذي هو معدى قام عدى إليه بالهمزة الدالة على الجمل والإقامة جعلها قائمة مأخوذ من قامت السوق إذا نفقت وتداول الناس فيها البيع والشراء وقد دل على هذا التقدير تصريح بعض أهل اللسان بهذا المقدر . قال أيمن ابن خريم الانطري : .
أقامت غزالة سوق الضراب ... لأهل العراقين حولا قميطا A E