وهذا النفي ليس فيه ادعاء ولا تنزيل فهذا الوجه يغنى عن تنزيل الموجود منزلة المعدوم فيفيد التعريض بما بين يدي أهل الكتاب يومئذ من الكتب فإنها قد اضطربت أقوالها وتخالفت لما اعتراها من التحريف وذلك لأن التصدي للأخبار بنفي الريب عن القرآن مع عدم وجود قائل بالريب فيما تضمنه أي بريب مستند لموجب ارتياب إذ قصارى ما قالوه فيه أقوال مجملة مثل هذا سحر هذا أساطير الأولين يدل ذلك التحدي على أن المراد التعريض لا سيما بعد قوله ( ذلك الكتاب ) كما تقول لمن تكلم بعد قوم تكلموا في مجلس وأنت ساكت : هذا الكلام صواب تعرض بغيره .
وبهذا الوجه أيضا يتسنى اتحاد المعنى عند الوقف لدى من وقف على فيه ولدى من وقف على ريب لأنه إذا اعتبر الظرف غير خبر وكان الخبر محذوفا أمكن الاستغناء عن هذا الظرف من هاته الجملة وقد ذكر الكشاف أن الظرف وهو قوله ( فيه ) لم يقدم على المسند إليه وهو ريب " أي على احتمال أن يكون خبرا عن اسم لا " كما قدم الظرف في قوله ( لا فيها غول ) لأنه لو قدم الظرف هنا لقصد أن كتابا آخر فيه الريب اه . يعني لأن التقديم في مثله يفيد الاختصاص فيكون مفيدا أن نفي الريب عنه مقصور عليه وأن غيره من الكتب فيه الريب وهو غير مقصود هنا . وليس الحصر في قوله ( لا ريب فيه ) بمقصود لأن السياق خطاب للعرب المتحدين بالقرآن وليسوا من أهل كتاب حتى يرد عليهم . وإنما أريد أنهم لا عذر لهم في إنكارهم أنه من عند الله إذ هم قد دعوا إلى معارضته فعجزوا . نعم يستفاد منه تعريض بأهل الكتاب الذين آزروا المشركين وشجعوهم على التكذيب به بأن القرآن لعلو شأنه بين نظرائه من الكتب ليس فيه ما يدعو إلى الارتياب في كونه منزلا من الله إثارة للتدبر فيه هل يجدون ما يوجب الارتياب فيه وذلك يستطير جاثم إعجابهم بكتابهم المبدل المحرف فإن الشك في الحقائق رائد ظهورها . والفجر بالمستطير بين يدي طلوع الشمس بشير بسفورها . وقد بنى كلامه على أن الجملة المكيفة بالقصر في حالة الإثبات لو دخل عليها نفى وهي بتلك الكيفية أفاد قصر النفي لا نفي القصر وأمثلة صاحب المفتاح في تقديم المسند للاختصاص سوى فيها بين ما جاء بالإثبات وما جاء بالنفي . وعندي فيه نظر سأذكره عند قوله تعالى ( ليس عليك هداهم ) . وحكم حركة هاء الضمير أو سكونها مقررة في علم القراءات في قسم أصولها .
وقوله ( هدى للمتقين ) الهدى اسم مصدر الهدى ليس له نظير في لغة العرب إلا سرى وتقى وبكى ولغى مصدر لغى في لغة قليلة . وفعله هدى هديا يتعدى إلى المفعول الثاني بإلى وربما تعدى إليه بنفسه على طريقة الحذف المتوسع فيما تقدم في قوله تعالى ( اهدنا الصراط المستقيم ) .
والهدى على التحقيق هو الدلالة التي من شأنها الإيصال إلى البغية وهذا هو الظاهر في معناه لأن الأصل عدم الترادف فلا يكون هدى مرادفا لدل ولأن المفهوم من الهدى الدلالة الكاملة وهذا موافق للمعنى المنقول إليه الهدى في العرف الشرعي . وهو أسعد بقواعد الأشعري لأن التوفيق الذي هو الإيصال عند الأشعري من خلق الله تعالى في قلب الموفق فيناسب تفسير الهداية بما يصلح له ليكون الذي يهدى يوصل الهداية الشرعية . فالقرآن هدى ووصفه بالمصدر للمبالغة أي هو هاد .
والهدى الشرعي هو الإرشاد إلى ما فيه صلاح العاجل الذي لا ينقض صلاح الآجل . وأثر هذا الهدى هو الاهتداء فالمتقون يهتدون بهديه والمعاندون لا يهتدون لأنهم لا يتدبرون وهذا معنى لا يختلف فيه وإنما اختلف المتكلمون في منشأ حصول الاهتداء وهي مسألة لا حاجة إليها في فهم الآية . وتفصيل أنواع الهداية تقدم عند قوله تعالى ( اهدنا الصراط ) . ومحل ( هدى ) إن كان هو صدر جملة أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف هو ضمير الكتاب فيكون المعنى الإخبار عن الكتاب بأنه الهدى وفيه من المبالغة في حصول الهداية به ما يقتضيه الإخبار بالمصدر للإشارة إلى بلوغه الغاية في إرشاد الناس حتى كان هو عين الهدى تنبيها على رجحان هداه على هدى ما قبله من الكتب وإن كان الوقف على قوله لا ريب وكان الظرف هو صدر الجملة الموالية وكان قوله ( هدى ) مبتدأ خبره الظرف المتقدم قبله فيكون إخبارا بأن فيه هدى فالظرفية تدل على تمكن الهدى منه فيساوي ذلك في الدلالة على التمكن الوجه المتقدم الذي هو الإخبار عنه بأنه عين الهدى .
A E