وفي الحديث " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " أي دع الفعل الذي يقربك من الشك في التحريم إلى فعل آخر لا يدخل عليك في فعله شك في أنه مباح . ولم يختلف متواتر القراء في فتح ( لا ريب ) نفيا للجنس على سبيل التنصيص وهو أبلغه لأنه لو رفع لاحتمل نفي الفرد دون الجنس فإن كانت الإشارة بقوله ( ذلك ) إلى الحروف المجتمعة في آلم على إرادة التعريض بالمتحدين وكان قوله ( الكتاب ) خبرا لاسم الإشارة على ما تقدم كان قوله ( لا ريب ) نفيا لريب خاص وهو الريب الذي يعرض في كون هذا الكتاب مؤلفا من حروف كلامهم فكيف عجزوا عن مثله وكان نفي الجنس فيه حقيقة وليس بادعاء فتكون جملة ( لا ريب ) منزلة منزلة التأكيد لمفاد الإشارة في قوله ( ذلك الكتاب ) وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون المجرور وهو قوله ( فيه ) متعلقا بريب على أنه ظرف لغو فيكون الوقف على قوله ( فيه ) وهو مختار الجمهور على نحو قوله تعالى ( وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه ) وقوله ( ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه ) ويجوز أن يكون قوله فيه ظرفا مستقرا خبرا لقوله بعده ( هدى للمتقين ) ومعنى ( في ) هو الظرفية المجازية العرفية تشبيها لدلالة اللفظ باحتواء الظرف فيكون تخطئة للذين أعرضوا عن استماع القرآن فقالوا ( لا تسمعوا لهذا القرآن ) استنزالا لطائر نفورهم كأنه قيل هذا الكتاب مشتمل على شيء من الهدى فاسمعوا إليه ولذلك نكر الهدى أي فيه شيء من هدى على حد قول النبي A لأبي ذر ( إنك امرؤ فيك جاهلية ) ويكون خبر ( لا ) محذوفا لظهوره أي لا ريب موجود وحذف الخبر مستعمل كثيرا في أمثاله نحو ( قالوا لا ضير ) وقول العرب لا بأس وقول سعد بن مالك : .
من صد عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا براح أي لا بقاء في ذلك وهو استعمال مجازي فيكون الوقف على قوله ( لا ريب ) وفي الكشاف أن نافعا وعاصما وقفا على قوله ( ريب ) .
وإن كانت الإشارة بقوله ( ذلك ) إلى الكتاب باعتبار كونه كالحاضر المشاهد وكان قوله الكتاب بدلا من اسم الإشارة لبيانه فالمجرور من قوله ( فيه ) ظرف لغو متعلق بريب وخبر لا محذوف على الطريقة الكثيرة في مثله والوقف على قوله ( فيه ) فيه معنى نفى وقوع الريب في الكتاب على هذا الوجه نفى الشك في أنه منزل من الله تعالى لأن المقصود خطاب المرتابين في صدق نسبته إلى الله تعالى وسيجيء خطابهم بقوله ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ) فارتيابهم واقع مشتهر ولكن نزل ارتيابهم منزلة العدم لأن في دلائل الأحوال ما لو تأملوه لزال ارتيابهم فنزل ذلك الارتياب مع دلائل بطلانه منزلة العدم . قال صاحب المفتاح : " ويقلبون القضية مع المنكر إذا كان معه ما إن تأمله ارتدع فيقولون لمنكر الإسلام : الإسلام حق وقوله D في حق القرآن ( لا ريب فيه ) " وكم من شقي مرتاب فيه " وارد ( على هذا ) فيكون المركب الدال على النفي المؤكد للريب مستعملا في معنى عدم الاعتداد بالريب لمشابهة حال المرتاب في وهن ريبه بحال من ليس بمرتاب أصلا على طريقة التمثيل .
ومن المفسرين من فسر قوله تعالى ( لا ريب فيه ) بمعنى أنه ليس فيه ما يوجب ارتيابا في صحته أي ليس فيه اضطراب ولا اختلاف فيكون الريب هنا مجازا في سببه ويكون المجرور ظرفا مستقرا خبر ( لا ) فينظر إلى قوله تعالى ( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) أي أن القرآن لا يشتمل على كلام يوجب الريبة في أنه من عند الحق رب العالمين من كلام يناقض بعضه بعضا أو كلام يجافي الحقيقة والفضيلة أو يأمر بارتكاب الشر والفساد أو يصرف عن الأخلاق الفاضلة وانتفاء ذلك عنه يقتضي أن ما يشتمل عليه القرآن إذا تدبر فيه المتدبر وجده مفيدا اليقين بأنه من عند الله والآية هنا تحتمل المعنيين فلنجعلهما مقصودين منها على الأصل الذي أصلناه في المقدمة التاسعة .
A E