فلا جرم أن كانت الإشارة في الآية باستعمال اسم الإشارة للبعيد لإظهار رفعة شأن هذا القرآن لجعله بعيد المنزلة . وقد شاع في الكلام البليغ تمثيل الأمر الشريف بالشيء المرفوع في عزة المنال لأن الشيء النفيس عزيز على أهله فمن العادة أن يجعلوه في المرتفعات صونا له عن الدروس وتناول كثرة الأيدي والابتذال فالكتاب هنا لما ذكر في مقام التحدي بمعارضته بما دلت عليه حروف التهجي في آلم كان كالشيء العزيز المنال بالنسبة إلى تناولهم إياه بالمعارضة أو لأنه لصدق معانيه ونفع إرشاده بعيد عمن يتناوله بهجر القول كقولهم ( افتراه ) وقولهم ( أساطير الأولين ) . ولا يرد على هذا قوله ( وهذا كتاب أنزلناه ) فذلك للإشارة إلى كتاب بين يدي أهله لترغيبهم في العكوف عليه والاتعاظ بأوامره ونواهيه . ولعل صاحب الكشاف بنى على مثل ما بنى عليه الرضي فلم يعد ( ذلك الكتاب ) تنبيها على التعظيم أو الاعتبار فلله در صاحب المفتاح إذ لم يغفل ذلك فقال في مقتضيات تعريف المسند إليه بالإشارة : أو أن يقصد ببعده تعظيمه كما تقول في مقام التعظيم ذلك الفاضل وأولئك الفحول وكقوله عز وعلا ( آلم ذلك الكتاب ) ذهابا إلى بعده درجة .
وقوله ( الكتاب ) يجوز أن يكون بدلا من اسم الإشارة لقصد بيان المشار إليه لعدم مشاهدته فالتعريف فيه إذن للعهد ويكون الخبر هو جملة ( لا ريب فيه ) ويجوز أن يكون ( الكتاب ) خبرا عن اسم الإشارة ويكون التعريف تعريف الجنس فتفيد الجملة قصر حقيقة الكتاب على القرآن بسبب تعريف الجزئين فهو إذن قصر ادعائي ومعناه ذلك هو الكتاب الجامع لصفات الكمال في جنس الكتب بناء على أن غيره من الكتب إذا نسبت إليه كانت كالمفقود منها وصف الكتاب لعدم استكمالها جميع كمالات الكتب وهذا التعريف قد يعبر عنه النحاة في تعداد معاني لام التعريف بمعنى الدلالة على الكمال فلا يرد أنه كيف يحصر الكتاب في أنه آلم أو في السورة أو نحو ذلك إذ ليس المقام مقام الحصر وإنما هو مقام التعريف لا غير ففائدة التعريف والإشارة ظاهرية وليس شيء من ذلك لغوا بحال وإن سبق لبعض الأوهام على بعض احتمال .
والكتاب فعال بمعنى المكتوب إما مصدر كاتب المصوغ للمبالغة في الكتابة فإن المصدر يجيء بمعنى المفعول كالخلق وإما فعال بمعنى مفعول كلباس بمعنى ملبوس وعماد بمعنى معمود به . واشتقاقه من كتب بمعنى جمع وضم لأن الكتاب تجمع أوراقه وحروفه فإن النبي A أمر بكتابة كل ما ينزل من الوحي وجعل للوحي كتابا وتسمية القرآن كتابا إشارة إلى وجوب كتابته لحفظه . وكتابة القرآن فرض كفاية على المسلمين .
( لا ريب فيه هدى للمتقين [ 2 ] ) حال من الكتاب أو خبر أول أو ثان على ما مر قريبا . والريب الشك وأصل الريب القلق واضطراب النفس وريب الزمان وريب المنون نوائب ذلك قال الله تعالى ( نتربص به ريب المنون ) ولما كان الشك يلزمه اضطراب النفس وقلقها غلب عليه الريب فصار حقيقة عرفية يقال رابه الشيء إذا شككه أي بجعل ما أوجب الشك في حاله فهو متعد ويقال أرابه كذلك إذ الهمزة لم تكسبه تعدية زائدة فهو مثل لحق وألحق وزلقه وأزلقه وقد قيل إن أراب أضعف من راب أراب بمعنى قربه من أن يشك قاله أبو زيد وعلى التفرقة بينهما قال بشار : .
أخوك الذي إن ربته قال إنما ... أربت وإن عاتبته لان جانبه A E