وقد هيأت الجمل السابقة موقعا لهاته الجملة لأنه إذا تقرر أن خالق الموجودات هو الله وحده لزم من ذلك أنه مقدر أحوالهم وأعمالهم لأن كون ذلك في دائرة قدرته أولى وأحق بعد كون معروضات تلك العوارض مخلوقة له . فالمعروضات العارضة للموجودات حاصلة بتقدير الله لأنه تعالى مقدر أسبابها واضع نظام حصولها وتحصيلها وخالق وسائل الدواعي النفسانية إليها أو الصوارف عنها .
والمس حقيقته وضع اليد على شيء . وقد يكون مباشرة وقد يكون بآلة ويستعمل مجازا في إيصال شيء إلى شيء فيستعار إلى معنى الإيصال فيكثر أن يذكر معه ما هو مستعار للآلة . ويدخل عليه حرف الآلة وهو الباء كما هنا فتكون فيه استعارتان تبعيتان إحداهما في الفعل والأخرى في معنى الحرف كما في قوله ( ولا تمسوها بسوء ) . فالمعنى : وإن يصبك الله بضر أو وإن ينلك من الله ضر .
والضر بضم الضاد هو الحال الذي يؤلم الانسان وهو من الشر وهو المنافر للإنسان . ويقابله النفع وهو من الخير وهو الملائم . والمعنى إن يقدر الله لك الضر فهلا يستطيع أحد كشفه عنك إلا هو إن شاء ذلك لأن مقدر انه مربوطة ومحوطة بنواميس ونظم لا تصل إلى تحويلها إلا قدرة خالقها .
وقابل قوله ( وإن يمسسك الله بضر ) بقوله ( وإن يمسسك بخير ) مقابلة بالأعم لأن الخير يشمل النفع وهو الملائم ويشمل السلامة من المنافر للإشارة إلى أن المراد من الضر ما هو أعم فكأنه قيل : إن يمسسك بضر وشر وإن يمسسك بنفع وخير ففي الآية احتباك . وقال ابن عطية : ناب الضر في هذه الآية مناب الشر والشر أعم وهو مقابل الخير . وهو من الفصاحة عدول عن قانون التكلف والصنعة فإن من باب التكلف أن يكون الشيء مقترنا بالذي يختص به ونظر هذا بقوله تعالى ( إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ) . اه .
وقوله ( فهو على كل شيء قدير ) جعل جوابا للشرط لأنه علة الجواب المحذوف والجواب المذكور قبله إذ التقدير : وإن يمسسك بخير فلا مانع له لأنه على كل شيء قدير في الضر والنفع . وقد جعل هذا العموم تمهيدا لقوله بعده ( وهو القاهر فوق عباده ) .
( وهو القاهر عباده وهو الحكيم الخبير [ 18 ] ) هذه الجملة معطوفة على جملة ( وإن يمسسك الله بضر ) الآية والمناسبة بينهما أن مضمون كلتيهما يبطل استحقاق الأصنام العبادة . فالآية الأول ى أبطلت ذلك بنفي أن يكون للأصنام تصرف في أحوال المخلوقات وهذه الآية أبطلت أن يكون غير الله قاهرا على أحد أو خبيرا أو عالما بإعطاء كل مخلوق ما يناسبه ولا جرم أن الإله تجب له القدرة والعلم وهما جماع صفات الكمال كما تجب له صفات الأفعال من نفع وضر وإحياء وإماتة وهي تعلقات للقدرة أطلق عليها اسم الصفات عند غير الأشعري نظرا للعرف وأدخلها الأشعري في صفة القدرة لأنها تعلقات لها وهو التحقيق .
ولذلك تتنزل هذه الآية من التي قبلها منزلة التعميم بعد التخصيص لأن التي قبلها ذكرت كمال تصرفه في المخلوقات وجاءت به في قالب تثبيت الرسول A كما قدمنا وهذه الآية أوعت قدرته على كل شيء وعلمه بكل شيء وذلك أصل جميع الفعل والصنع .
والقاهر الغالب المكره الذي لا ينفلت من قدرته من عدي إليه فعل القهر .
وقد أفاد تعريف الجزأين القصر أي لا قاهر إلا هو لأن قهر الله تعالى هو القهر الحقيقي الذي لا يجد المقهور منه ملاذا لأنه قهر بأسباب لا يستطيع أحد خلق ما يدافعها . ومما يشاهد منها دوما النوم وكذلك الموت . سبحان من قهر العباد بالموت .
و ( فوق ) ظرف متعلق ب ( القاهر ) وهو استعارة تمثيلية لحالة القاهر بأنه كالذي يأخذ المغلوب من أعلاه فلا يجد معالجة ولا حراكا . وهو تمثيل بديع ومنه قوله تعالى حكاية عن فرعون ( وإنا فوقهم قاهرون ) .
ولا يفهم من ذلك جهة هي في علو كما قد يتوهم فلا تعد هذه الآية من المتشابهات .
والعباد : هم المخلوقون من العقلاء فلا يقال للدواب عباد الله وهو في الأصل جمع عبد لكن الاستعمال خصه بالمخلوقات وخص العبيد بجمع عبد بمعنى المملوك .
A E