ومعنى القهر فوق العباد أنه خالق ما لا يدخل تحت قدرهم بحيث يوجد ما لا يريدون وجوده كالموت ويمنع ما يريدون تحصيله كالولد للعقيم والجهل بكثير من الأشياء بحيث إن كل أحد يجد في نفسه أمورا يستطيع فعلها وأمورا لا يستطيع فعلها وأمورا يفعلها تارة ولا يستطيع فعلها تارة كالمشي لمن خدرت رجله ؛ فيعلم كل أحد أن الله هو خالق القدر والاستطاعات لأنه قد يمنعها ولأنه يخلق ما يخرج عن مقدور البشر ثم يقيس العقل عوالم الغيب على عالم الشهادة . وقد خلق الله العناصر والقوى وسلط بعضها على بعض فلا تستطيع المدافعة إلا ما خولها الله .
والحكيم : المحكم المتقن للمصنوعات فعيل بمعنى مفعل وقد تقدم في قوله ( فاعلموا أن الله عزيز حكيم ) في سورة البقرة وفي مواضع كثيرة .
والخبير : مبالغة في اسم الفاعل من ( خبر ) المتعدي بمعنى " علم " يقال : خبر الأمر إذا علمه وجربه . وقد قيل : إنه مشتق من الخبر لأن الشيء إذا علم أمكن الإخبار به .
( قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ) انتقال من الاستدلال على إثبات ما يليق بالله من الصفات إلى إثبات صدق رسالة محمد A والى جعل الله حكما بينه وبين مكذبيه فالجملة استئناف ابتدائي ومناسبة ظاهرة .
روى الواحدي في أسباب النزول عن الكلبي : أن رؤساء مكة قالوا : يا محمد ما نرى أحدا مصدقك بما تقول وقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس عندهم ذكرك ولا صفتك فأرنا من يشهد أنك رسول الله . فنزلت هذه الآية .
وقد ابتدئت المحاورة بأسلوب إلقاء استفهام مستعمل في التقرير على نحو ما بينته عند قوله تعالى ( قل لمن ما في السماوات والأرض ) ومثل هذا الأسلوب لإعداد السامعين لتلقي ما يرد بعد الاستفهام .
و ( أي ) اسم استفهام يطلب به بيان أحد المشتركات فيما أضيف إليه هذا الاستفهام والمضاف إليه هنا هو ( شيء ) المفسر بأنه من نوع الشهادة .
و ( شيء ) اسم عام من الأجناس العالية ذات العموم الكثير قيل : هو الموجود وقيل : هو ما يعلم ويصح وجوده . والأظهر في تعريفه أنه الأمر الذي يعلم . ويجري عليه الإخبار سواء كان موجودا أو صفة موجود أو معنى يتعقل ويتحاور فيه ومنه قوله تعالى ( فقال الكافرون هذا شيء عجيب أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد ) .
وقد تقدم الكلام على مواقع حسن استعمال كلمة ( شيء ) ومواقع ضعفها عند قوله تعالى ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ) في سورة البقرة .
و ( أكبر ) هنا بمعنى أقوى وأعدل في جنس الشهادات وهو من إطلاق ما مدلوله عظم الذات على عظم المعنى كقوله تعالى ( ورضوان من الله أكبر ) وقوله ( قل قتال فيه كبير ) . وقد تقدم في سورة البقرة .
وقوة الشهادة بقوة اطمئنان النفس إليها وتصديق مضمونها .
وقوله ( شهادة ) تمييز لنسبة الأكبرية إلى الشيء فصار ما صدق الشيء بهذا التمييز هو الشهادة . فالمعنى : أية شهادة هي أصدق الشهادات فالمستفهم عنه ب ( أي ) فرد من أفراد الشهادات يطلب علم أنه أصدق أفراد جنسه .
والشهادة تقدم بيانها عند قوله تعالى ( شهادة بينكم ) في سورة المائدة .
ولما كانت شهادة الله على صدق الرسول A غير معلومة للمخاطبين المكذبين بأنه رسول الله صارت شهادة الله عليهم في معنى القسم على نحو قوله تعالى ( ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ) أي أن تشهد الله على كذب الزوج أي أن تحلف على ذلك بسم الله فإن لفظ ( أشهد الله ) من صيغ القسم إلا أنه إن لم يكن معه معنى الإشهاد يكون مجازا مرسلا وإن كان معه معنى الإشهاد كما هنا فهو كناية عن القسم مراد منه معنى إشهاد الله عليهم وبذلك يظهر موقع قوله ( الله شهيد بيني وبينكم ) أي أشهده عليكم . وقريب منه ما حكاه الله عن هود ( قال إني أشهد الله ) .
وقوله ( قل الله شهيد بيني وبينكم ) جواب للسؤال ولذلك فصلت جملته المصدرة ب ( قل ) . وهذا جواب أمر به المأمور بالسؤال على معنى أن يسأل ثم يبادر هو بالجواب لكون المراد بالسؤال التقرير وكون الجواب مما لا يسع المقرر إنكاره على نحو ما بيناه في قوله ( قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله ) .
A E