حذر الجور والتطاخي وهل ... ينقض ما في المهارق الأهواء فالرحمة هنا مصدر أي كتب على نفسه أن يرحم وليس المراد الصفة أي كتب على نفسه الاتصاف بالرحمة أي بكونه رحيما لأن الرحمة صفة ذاتية لله تعالى واجبة له والواجب العقلي لا تتعلق به الإرادة إلا إذا جعلنا ( كتب ) مستعملا في تمجز آخر وهو تشبيه الوجوب الذاتي بالأمر المحتم المفروض والقرينة هي هي إلا أن المعنى الأول أظهر في الامتنان وفي المقصود من شمول الرحمة للعبيد المعرضين عن حق شكره والمشركين له في ملكه غيره .
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله A : لما قضى الله تعالى الخلق كتب كتابا فوضعه عنده فوق العرش " إن رحمتي سبقت غضبي " .
وجملة ( ليجمعنكم إلى يوم القيامة ) واقعة موقع النتيجة من الدليل والمسبب من السبب فإنه لما أبطلت أهلية أصنامهم للإلهية ومحضت وحدانية الله بالإلهية بطلت إحالتهم البعث بشبهة تفرق أجزاء الأجساد أو انعدامها .
A E ولام القسم ونون التوكيد أفادا تحقيق الوعيد . والمراد بالجمع استقصاء متفرق جميع الناس أفرادا وأجزاءا متفرقة . وتعديته ب ( إلى ) لتضمينه معنى السوق . وقد تقدم القول في نظيره عند قوله تعالى ( الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ) في سورة النساء .
وضمير الخطاب في قوله ( ليجمعنكم ) مراد به خصوص المحجوجين من المشركين لأنهم المقصود من هذا القول من أوله ؛ فيكون نذارة لهم وتهديدا وجوابا عن أقل ما يحتمل من سؤال ينشأ عن قوله ( كتب على نفسه الرحمة ) كما تقدم .
وجملة ( الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ) الأظهر عندي أنها متفرعة على جملة ( ليجمعنكم إلى يوم القيامة ) وأن الفاء من قوله ( فهم لا يؤمنون ) للتفريع والسببية . وأصل التركيب : فأنتم لا تؤمنون لأنكم خسرتم أنفسكم في يوم القيامة ؛ فعدل عن الضمير إلى الموصول لإفادة الصلة أنهم خسروا أنفسهم بسبب عدم إيمانهم .
وجعل ( الذين خسروا أنفسهم ) خبر مبتدأ محذوف . والتقدير : أنتم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون . ونظم الكلام على هذا الوجه أدعى لإسماعهم وبهذا التقدير يستغنى عن سؤال الكشاف عن صحة ترتب عدم الإيمان على خسران أنفسهم مع أن الأمر بالعكس .
وقيل ( الذين خسروا أنفسهم ) مبتدأ وجملة ( فهم لا يؤمنون ) خبره وقرن بالفاء لأن الموصول تضمن معنى الشرط على نحو قوله تعالى ( واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ) . وأشرب الوصول معنى الشرط ليفيد شموله كل من اتصف بمضمون الصلة ويفيد تعليق حصول مضمون جملة الخبر المنزل منزلة جواب الشرط على حصول مضمون الصلة المنزلة منزلة جملة الشرط فيفيد أن ذلك مستمر الارتباط والتعليل في جميع أزمنة المستقبل التي يتحقق فيها معنى الصلة . فقد حصل في هذه الجملة من الخصوصيات البلاغية ما لا يوجد مثله في غير الكلام المعجز .
ومعنى ( خسروا أنفسهم ) أضاعوها كما يضيع التاجر رأس ماله فالخسران مستعار لإضاعة ما شأنه أن يكون سبب نفع . فمعنى ( خسروا أنفسهم ) عدموا فائدة الانتفاع بما ينتفع به الناس من أنفسهم وهو العقل والتفكير فإنه حركة النفس في المعقولات لمعرفة حقائق الأمور . وذلك أنهم لما أعرضوا عن التدبر في صدق الرسول E فقد أضاعوا عن أنفسهم أنفع سبب للفوز في العاجل والآجل فكان ذلك سبب أن لا يؤمنوا بالله والرسول واليوم الآخر . فعدم الإيمان مسبب عن حرمانهم الانتفاع بأفضل نافع . ويتسبب على عدم الإيمان خسران آخر وهو خسران الفوز في الدنيا بالسلامة من العذاب وفي الآخرة بالنجاة من النار وذلك يقال له خسران ولا يقال له خسران الأنفس . وقد أشار إلى الخسرانين قوله تعالى ( أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ) .
( وله وما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم [ 13 ] ) جملة معطوفه على ( لله ) من قوله ( قل لله ) الذي هو في تقدير الجملة أي ما في السماوات والأرض لله وله ما سكن