وقوله ( لله ) خبر مبتدأ محذوف دل عليه ( ما في السماوات ) الخ . ويقدر المبتدأ مؤخرا عن الخبر على وزان السؤال لأن المقصود إفادة الحصر .
واللام في قوله ( لله ) للملك ؛ دلت على عبودية الناس لله دون غيره وتستلزم أن العبد صائر إلى مالكه لا محالة وفي ذلك تقرير لدليل البعث السابق المبني على إثبات العبودية بحق الخلق . ولا سبب للعبودية أحق وأعظم من الخالقية ويستتبع هذا الاستدلال الإنذار بغضبه على من أشرك معه .
وهذا استدلال على المشركين بأن غير الله ليس أهلا للإلهية لأن غير الله لا يملك ما في السماوات وما في الأرض إذ ملك ذلك لخالق ذلك . وهو تمهيد لقوله بعده ( ليجمعنكم إلى يوم القيامة ) لأن مالك الأشياء لا يهمل محاسبتها .
وجملة ( كتب على نفسه الرحمة ) معترضة وهي من المقول الذي أمر الرسول بأن يقوله .
وفي هذا الاعتراض معان : أحدها أن ما بعده لما كان مشعرا بإنذار بوعيد قدم له التذكير بأنه رحيم بعبيده عساهم يتوبون ويقلعون عن عنادهم على نحو قوله تعالى ( كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم ) والشرك بالله أعظم سوء وأشد تلبسا بجهالة .
A E والثاني أن الإخبار بأن لله ما في السماوات وما في الأرض يثير سؤال سائل عن عدم تعجيل أخذهم على شركهم بمن هم ملكه . فالكافر يقول : لو كان ما تقولون صدقا لعجل لنا العذاب والمؤمن يستبطئ تأخير عقابهم فكان قوله ( كتب على نفسه الرحمة ) جوابا لكلا الفريقين بأنه تفضل بالرحمة فمنها رحمة كاملة : وهذه رحمته بعباده الصالحين ومنها رحمة موقتة وهي رحمة الإمهال والإملاء للعصاة والضالين .
والثالث أن ما في قوله ( قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله ) من التمهيد لما في جملة ( ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ) من الوعيد والوعد .
ذكرت رحمة الله تعريضا ببشارة المؤمنين وبتهديد المشركين .
الرابع أن فيه إيماء إلى أن الله قد نجى أمة الدعوة المحمدية من عذاب الاستئصال الذي عذب به الأمم المكذبة رسلها من قبل وذلك ببركة النبي محمد A إذ جعله رحمة للعالمين في سائر أحواله بحكم قوله تعالى ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) وإذ أراد تكثير تابعيه فلذلك لم يقض على مكذبيه قضاء عاجلا بل أمهلهم وأملى لهم ليخرج منهم من يؤمن به كما رجا رسول الله A . ولذلك لما قالوا ( اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) قال الله تعالى ( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ) . وقد حصل ما رجاه رسول الله فلم يلبث من بقي من المشركين أن آمنوا بالله ورسوله بعد فتح مكة ودخلوا في دين الله أفواجا وأيد الله بهم بعد ذلك دينه ورسوله ونشروا كلمة الإسلام في آفاق الأرض . وإذ قد قدر الله تعالى أن يكون هذا الدين خاتمة الأديان كان من الحكمة إمهال المعاندين له والجاحدين لأن الله لو استأصلهم في أول ظهور الدين لأتى على من حوته مكة من مشرك ومسلم ثم يحشرون على نياتهم كما ورد في الحديث لما قالت أم سلمة لرسول الله A : أنهلك وفينا الصالحون قال : نعم إذا كثر الخبث ثم يحشرون على نياتهم . فلو كان ذلك في وقت ظهور الإسلام لارتفع بذلك هذا الدين فلم يحصل المقصود من جعله خاتمة الأديان . وقد استعاذ رسول الله A لما نزل عليه ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم ) فقال " أعوذ بسبحات وجهك الكريم " .
ومعنى ( كتب ) تعلقت إرادته بأن جعل رحمته الموصوف بها بالذات متعلقة تعلقا عاما مطردا بالنسبة إلى المخلوقات وإن كان خاصا بالنسبة إلى الأزمان والجهات . فلما كان ذلك مطردا شبهت إرادته بالإلزام فاستعير لها فعل ( كتب ) الذي هو حقيقة في الإيجاب والقرينة هي مقام الإلهية أو جعل ذلك على نفسه لأن أحدا لا يلزم نفسه بشيء إلا اختيارا وإلا فان غيره يلزمه . والمقصود أن ذلك لا يتخلف كالأمر الواجب المكتوب فإنهم كانوا إذا أرادوا تأكيد وعد أو عهد كتبوه كما قال الحارث بن حلزة : .
واذكروا حلف ذي المجاز ... وما قدم فيه العهود ولا كفلاء