وإنما اختير هنا ما يدل على تنهية أجل كل مخلوق من طين دون أن يقال " إلى أجل لأن دلالة تنهية الأجل على إمكان الخلق الثاني وهو البعث أوضح من دلالة تقدير الأجل لأن التقدير خفي والذي يعرفه الناس هو انتهاء أجل الحياة ولأن انتهاء أجل الحياة مقدمة للحياة الثانية .
وجملة ( وأجل مسمى عنده ) معترضة بين جملة ( ثم قضى أجلا ) . وجملة ( ثم أنتم تمترون ) . وفائدة هذا الاعتراض إعلام الخلق بأن الله عالم آجال الناس ردا على قول المشركين ( وما يهلكنا إلا الدهر ) .
وقد خولفت كثرة الاستعمال في تقديم الخبر الظرف على كل مبتدأ نكرة موصوفة نحو قوله تعالى ( ولي نعجة واحدة ) حتى قال صاحب الكشاف : إنه الكلام السائر فلم يقدم الظرف في هذه الآية لإظهار الاهتمام بالمسند إليه حيث خولف الاستعمال الغالب من تأخيره فصار بهذا التقديم تنكيره مفيدا لمعنى التعظيم أي وأجل عظيم مسمى عنده .
ومعنى ( مسمى ) معين لأن أصل السمة العلامة التي يتعين بها المعلم . والتعيين هنا تعيين الحد والوقت .
والعندية في قوله ( عنده ) عندية العلم أي معلوم له دون غيره . فالمراد بقوله ( وأجل مسمى ) أجل بعث الناس إلى الحشر فإن إعادة النكرة بعد نكرة يفيد أن الثانية غير الأول ى فصار : المعنى ثم قضى لكم أجلين : أجلا تعرفون مدته بموت صاحبه وأجلا معين المدة في علم الله . فالمراد بالأجل الأول عمر كل إنسان فإنه يعلمه الناس عند موت صاحبه فيقولون : عاش كذا وكذا سنة وهو وإن كان علمه لا يتحقق إلا عند انتهائه فما هو إلا علم حاصل لكثير من الناس بالمقايسة . والأجل المعلوم وإن كان قد انتهى فإنه في الأصل أجل ممتد .
A E والمراد بالأجل الثاني ما بين موت كل أحد وبين يوم البعث الذي يبعث فيه جميع الناس فإنه لا يعلمه في الدنيا أحد ولا يعلمونه يوم القيامة قال تعالى ( ويوم نحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم ) وقال ( ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة ) .
وقوله ( ثم أنتم تمترون ) عطفت على جملة ( هو الذي خلقكم من طين ) فحرف ( ثم ) للتراخي الرتبي كغالب وقوعها في عطف الجمل لانتقال من خبر إلى أعجب منه كما تقدم في قوله تعالى ( ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) أي فالتعجيب حقيق ممن يمترون في أمر البعث مع علمهم بالخلق الأول وبالموت .
والمخاطب بقوله ( أنتم تمترون ) هم المشركون . وجيء بالمسند إليه ضميرا بارزا للتوبيخ .
والامتراء الشك والتردد في الأمر وهو بوزن الافتعال مشتق من المرية بكسر الميم اسم للشك ولم يرد فعله إلا بزيادة التاء ولم يسمع له فعل مجرد .
وحذف متعلق ( تمترون ) لظهوره من المقام أي تمترون في إمكان البعث وإعادة الخلق . والذي دل على أن هذا هو المماري فيه قوله ( خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ) إذ لولا قصد التذكير بدليل إمكان البعث لما كان لذكر الخلق من الطين وذكر الأجل الأول والأجل الثاني مرجح للتخصيص بالذكر .
( وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون [ 3 ] ) عطف على قوله ( هو الذي خلقكم من طين ) أي خلقكم ولم يهمل مراقبتكم فهو يعلم أحوالكم كلها .
فالضمير مبتدأ عائد إلى اسم الجلالة من قوله ( الحمد لله ) وليس ضمير فصل إذ لا يقع ضمير الفصل بعد حرف العطف . وقوله ( الله ) خبر عن المبتدأ . وإذ كان المبتدأ ضميرا عائدا إلى اسم الله لم يكن المقصود الإخبار بأن هذا الذي خلق وقضى هو الله إذ قد علم ذلك من معاد الضمائر فتعين أن يكون المقصود من الإخبار عنه بأنه الله معنى يفيده المقام وذلك هو أن يكون كالنتيجة للأخبار الماضية ابتداء من قوله ( الحمد لله الذي خلق ) فنبه على فساد اعتقاد الذين أثبتوا الإلهية لغير الله وحمدوا ألهتهم بأنه خالق الأكوان وخالق الإنسان ومعيده ثم أعلن أنه المنفرد بالإلهية في السماوات وفي الأرض ؛ إذ لا خالق غيره كما تقرر آنفا . وإذ هو عالم السر والجهر وغيره لا إحساس له فضلا عن العقل فضلا عن أن يكون عالما .
ولما كان اسم الجلالة معروفا عندهم لا يلتبس بغيره صار قوله ( وهو الله ) في معنى الموصوف بهذه الصفات هو صاحب هذا الاسم لا غيره