وقوله ( في السماوات وفي الأرض ) متعلق بالكون المستفاد من جملة القصر أو بما في ( الحمد لله ) من معنى الانفراد بالإلهية كما يقول من يذكر جوادا ثم يقول : هو حاتم في العرب وهذا لقصد التنصيص على أنه لا يشاركه أحد في صفاته في الكائنات كلها .
وقوله ( يعلم سركم وجهركم ) جملة مقررة لمعنى جملة ( وهو الله ) ولذلك فصلت لأنها تتنزل منها منزلة التوكيد لأن انفراده بالإلهية في السماوات و في الأرض مما يقتضي علمه بأحوال بعض الموجودات الأرضية .
ولا يجوز تعليق ( في السماوات وفي الأرض ) بالفعل في قوله ( يعلم سركم ) لأن سر الناس وجهرهم وكسبهم حاصل في الأرض خاصة دون السماوات فمن قدر ذلك فقد أخطأ خطأ خفيا .
وذكر السر لأن علم السر دليل عموم العلم وذكر الجهر لاستيعاب نوعي الأقوال . والمراد ب ( ما تكسبون ) جميع الاعتقادات والأعمال من خير وشر فهو تعريض بالوعد والوعيد .
والخطاب لجميع السامعين ؛ فدخل فيه الكافرون وهم المقصود الأول من هذا الخطاب لأنه تعليم وإيقاظ بالنسبة إليهم وتذكير بالنسبة إلى المؤمنين .
( وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين [ 4 ] ) هذا انتقال إلى كفران المشركين في تكذيبهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن أقيمت عليهم الحجة ببطلان كفرهم في أمر الشرك بالله في الإلهية وقد عطف لأن الأمرين من أحوال كفرهم ولأن الذي حملهم على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم هو دعوته إياهم إلى التوحيد فمن أجله نشأ النزاع بينهم وبينه فكذبوه وسألوه الآيات على صدقه .
A E وضمائر جمع الغائبين مراد منها المشركون الذين هم بعض من شملته ضمائر الخطاب في الآية التي قبلها ففي العدول عن الخطاب إلى الغيبة بالنسبة إليهم التفات أوجبه تشهيرهم بهذا الحال الذميم تنصيصا على ذلك وإعراضا عن خطابهم وتمحيضا للخطاب للمؤمنين وهو من أحسن الالتفات لأن الالتفات يحسنه أن يكون له مقتض زائد على نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب المراد منه تجديد نشاط السامع . وتكون الواو استئنافية وما بعدها كلاما مستأنفا ابتدائيا .
واستعمل المضارع في قوله ( تأتيهم ) للدلالة على التجدد وإن كان هذا الإتيان ماضيا أيضا بقرينة المضي في قوله ( إلا كانوا ) .
والمراد بإتيانها بلوغها إليهم وتحديهم بها فشبه البلوغ بمجيء الجائي كقول النابغة : .
" أتاني أبيت اللعن أنك لمتني وحذف ما يدل على الجانب المأتي منه لظهوره من قوله ( من آيات ربهم ) أي ما تأتيهم من عند ربهم آية من آياته إلا كانوا عنها معرضين .
و ( من ) في قوله ( من آية ) لتأكيد النفي لقصد عموم أنواع الآيات التي أتت وتأتي . و ( من ) التي في قوله ( من آيات ربهم ) تبعيضية . والمراد بقوله ( من آية ) كل دلالة تدل على انفراد الله تعالى بالإلهية . من ذلك آيات القرآن التي لإعجازها لهم كانت دلائل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به من الوحدانية . وكذلك معجزات الرسول E مثل انشقاق القمر . وتقدم معنى الآية عند قوله تعالى ( والذين كفروا وكذبوا بآياتنا ) في سورة البقرة .
وإضافة الرب إلى ضمير ( هم ) لقصد التسجيل عليهم بالعقوق لحق العبودية لأن من حق العبد أن يقبل على ما يأتيه من ربه وعلى من يأتيه يقول له : إني مرسل إليك من ربك ثم يتأمل وينظر وليس من حقه أن يعرض عن ذلك إذ لعله يعرض عما إن تأمله علم أنه من عند ربه .
والاستثناء مفرغ من أحوال محذوفه .
وجملة ( كانوا عنها معرضين ) في موضع الحال . واختير الإتيان في خبر كان بصيغة اسم الفاعل للدلالة على أن هذا الإعراض متحقق من دلالة فعل الكون ومتجدد من دلالة صيغة اسم الفاعل لأن المشتقات في قوة الفعل المضارع . والاستثناء دل على أنهم لم يكن لهم حال إلا الإعراض .
وإنما ينشأ الإعراض عن اعتقاد عدم جدوى النظر والتأمل فهو دليل على أن المعرض مكذب للمخبر المعرض عن سماعه