ومعنى ( يعدلون ) يسوون . والعدل : التسوية . تقول : عدلت فلانا بفلان إذا سويته به كما تقدم في قوله ( أو عدل ذلك صياما ) فقوله ( بربهم ) متعلق ب ( يعدلون ) ولا يصح تعليقه ب ( الذين كفروا ) لعدم الحاجة إلى ذلك .
وحذف مفعول ( يعدلون ) أي يعدلون بربهم غيره وقد علم كل فريق ماذا عدل بالله . والمراد يعدلونه بالله في الإلهية وإن كان بعضهم يعترف بأن الله أعظم كما كان مشركوا العرب يقولون : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك . وكما قالت الصابئة في الأرواح والنصارى في الابن والروح القدس .
ومعنى التعجيب عام في أحوال الذين ادعوا الإلهية لغير الله تعالى سواء فيهم من كان أهلا للاستدلال والنظر في خلق السماوات والأرض ومن لم يكن أهلا لذلك لأن محل التعجيب أنه يخلقهم ويخلق معبوداتهم فلا يهتدون إليه بل ويختلقون إلهية غيره . ومعلوم أن التعجيب من شأنهم متفاوت على حسب تفاوت كفرهم وضلالهم .
( هو ؟ الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده وثم أنتم تمترون [ 2 ] ) استئناف لغرض آخر للتعجيب من حال المشركين إذ أنكروا البعث فإنه ذكرهم ابتداء بخلق السماوات والأرض وعجب من حالهم في تسويتهم ما لم يخلق السماوات ولا الأرض بالله تعالى في الإلهية . ثم ذكرهم بخلقهم الأول وعجب من حالهم كيف جمعوا بين الاعتراف بأن الله هو خالقهم الخلق الأول فكيف يمترون في الخلق الثاني .
A E وأتي بضمير ( هو ) في قوله ( هو الذي خلقكم ) ليحصل تعريف المسند والمسند إليه معا فتفيد الجملة القصر في ركني الإسناد وفي متعلقها أي هو خالقكم لا غيره من طين لا من غيره وهو الذي قضى أجلا وعنده أجل مسمى فينسحب حكم القصر على المعطوف على المقصور . والحال الذي اقتضى القصر هو حال إنكارهم البعث لأنهم لما أنكروه وهو الخلق الثاني نزلوا منزلة من أنكر الخلق الأول إذ لا فرق بين الخلقين بل الإعادة في متعارف الصانعين أيسر كما قال تعالى ( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ) وقال ( أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد ) . والقصر أفاد نفي جميع هذه التكوينات عن غير الله من أصنامهم فهو كقوله ( الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء ) .
والخطاب في قوله ( خلقكم ) موجه إلى الذين كفروا ففيه التفات من الغيبة إلى الخطاب لقصد التوبيخ .
وذكر مادة ما منه الخلق بقوله ( من طين ) لإظهار فساد استدلالهم على إنكار الخلق الثاني لأنهم استبعدوا أن يعاد خلق الإنسان بعد أن صار ترابا . وتكررت حكاية ذلك عنهم في القرآن فقد اعترفوا بأنهم يصيرون ترابا بعد الموت وهم يعترفون بأنهم خلقوا من تراب لأن ذلك مقرر بين الناس في سائر العصور فاستدلوا على إنكار البعث بما هو جدير بأن يكون استدلالا على إمكان البعث لأن مصيرهم إلى تراب يقرب إعادة خلقهم إذ صاروا إلى مادة الخلق الأول فلذلك قال الله هنا ( هو الذي خلقكم من طين ) وقال في آيات الاعتبار بعجيب تكوينه ( إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج ) وأمثال ذلك .
وهذا القدح في استدلالهم يسمى في اصطلاح علم الجدل القول بالموجب والمنبه عليه من خطأ استدلالهم يسمى فساد الوضع .
ومعنى ( خلقكم من طين ) أنه خلق أصل الناس وهو البشر الأول من طين فكان كل البشر راجعا إلى الخلق من الطين فلذلك قال ( خلقكم من طين ) . وقال في موضع آخر ( إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج ) أي الإنسان المتناسل من أصل البشر .
و ( ثم ) للترتيب والمهلة عاطفة فعل ( قضى ) على فعل ( خلق ) فهو عطف فعل على فعل وليس عطف جملة على جملة . والمهلة هنا باعتبار التوزيع أي خلق كل فرد من البشر ثم قضى له أجله أي استوفاه له ف ( قضى ) هنا ليس بمعنى ( قدر ) لأن تقدير الأجل مقارن للخلق أو سابق له وليس متأخرا عنه ولكن ( قضى ) هنا بمعنى ( أوفى ) أجل كل مخلوق كقوله ( فلما قضينا عليه الموت ) أي أمتناه . ولك أن تجعل ( ثم ) للتراخي الرتبي