وقوله ( وجعل الظلمات والنور ) أشار في الكشاف أن ( جعل ) إذا تعدى إلى مفعول واحد فهو بمعنى أحدث وأنشأ فيقارب مرادفة معنى ( خلق ) . والفرق بينه وبين ( خلق ) ؛ فإن في الخلق ملاحظة معنى التقدير وفي الجعل ملاحظة معنى الانتساب يعني كون المجعول مخلوقا لأجل غيره أو منتسبا إلى غيره فيعرف المنتسب إليه بمعونة المقام . فالظلمات والنور لما كانا عرضين كان خلقهما تكوينا لتكيف موجودات السماوات والأرض بهما . ويعرف ذلك بذكر ( الظلمات والنور ) عقب ذكر ( السماوات والأرض ) وباختيار لفظ الخلق للسماوات والأرض ولفظ الجعل للظلمات والنور ومنه قوله تعالى ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ) فإن الزوج وهو الأنثى مراعى في إيجاده أن يكون تكملة لخلق الذكر ولذلك عقبه بقوله ( ليسكن إليها ) والخلق أعم في الإطلاق ولذلك قال تعالى في آية أخرى ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ) لأن كل تكوين لا يخلو من تقدير ونظام .
وخص بالذكر من الجواهر والأعراض عرضين عظيمين وهما : الظلمات والنور فقال ( وجعل الظلمات والنور ) لاستواء جميع الناس في إدراكهما والشعور بهما . وبذكر هذه الأمور الأربعة حصلت الإشارة إلى جنسي المخلوقات من جواهر وأعراض . فالتفرقة بين فعل ( خلق ) وفعل ( جعل ) هنا معدود من فصاحة الكلمات . وإن لكل كلمة مع صاحبتها مقاما وهو ما يسمى في عرف الأدباء برشاقة الكلمة ففعل ( خلق ) أليق بإيجاد الذوات وفعل ( جعل ) أليق بإيجاد أعراض الذوات وأحوالها ونظامها .
والاقتصار في ذكر المخلوقات على هذه الأربعة تعريض بإبطال عقائد كفار العرب فإنهم بيم مشركين وصابئة ومجوس ونصارى وكلهم قد أثبتوا آلهة غير الله ؛ فالمشركون أثبتوا آلهة من الأرض والصابئة أثبتوا آلهة من الكواكب السماوية والنصارى أثبتوا إلهية عيسى أو عيسى ومريم وهما من الموجودات الأرض ية والمجوس وهم المانوية ألهوا النور والظلمة فالنور إله الخير والظلمة إله الشر عندهم .
A E فأخبرهم الله تعالى أنه خالق السماوات والأرض أي بما فيهن وخالق الظلمات والنور .
ثم أن في إيثار الظلمات والنور بالذكر دون غيرهما من الأعراض إيماء وتعريضا بحالي المخاطبين بالآية من كفر فريق وإيمان فريق فأن الكفر يشبه الظلمة لأنه انغماس في جهالة وحيرة والإيمان يشبه النور لأنه استبانة الهدى والحق . قال تعالى ( يخرجهم من الظلمات إلى النور ) . وقدم ذكر الظلمات مراعاة للترتب في الوجود لأن الظلمة سابقة النور فإن النور حصل بعد خلق الذوات المضيئة وكانت الظلمة عامة . وإنما جمع ( الظلمات ) وأفرد ( النور ) اتباعا للاستعمال لأن لفظ ( الظلمات ) بالجمع أخف ولفظ ( النور ) بالإفراد أخف ولذلك لم يرد لفظ ( الظلمات ) في القرآن إلا جمعا ولم يرد لفظ ( النور ) إلا مفردا . وهما معا دالان على الجنس والتعريف الجنسي يستوي فيه المفرد والجمع فلم يبق للاختلاف سبب لاتباع الاستعمال خلافا لما في الكشاف .
( ثم الذين كفروا بربهم يعدلون [ 1 ] ) عطفت جملة ( ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) على جملة ( الحمد لله الذي خلق السماوات ) . ف ( ثم ) للتراخي الرتبي الدال على أن ما بعدها يتضمن معنى من نوع ما قبله وهو أهم في بابه . وذلك شأن ( ثم ) إذا وردت عاطفة جملة على أخرى فإن عدول المشركين عن عبادة الله مع علمهم بأنه خالق الأشياء أمر غريب فيهم أعجب من علمهم بذلك .
والحجة ناهضة على الذين كفروا لأن جميعهم عدا المانوية يعترفون بأن الله هو الخالق والمدبر للكون ولذلك قال الله تعالى ( أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ) .
والخبر مستعمل في التعجيب على وجه الكناية بقرينة موقع ( ثم ) ودلالة المضارع على التجدد فالتعجيب من شأن المشركين ظاهر وأما المانوية فالتعجيب من شأنهم في أنهم لم يهتدوا إلى الخالق وعبدوا بعض مخلوقاته . فالمراد ب ( الذين كفروا ) كل من كفر بإثبات إله غير الله تعالى سواء في ذلك من جعل له شريكا مثل مشركي العرب والصابة ومن خص غير الله بالإلهية كالمانوية . وهذا المراد دلت عليه القرينة وإن كان غالب عرف القرآن إطلاق الذين كفروا على المشركين