القول الخامس عشر أنها تعليم للحروف المقطعة حتى إذا وردت عليهم بعد ذلك مؤلفة كانوا قد علموها كما يتعلم الصبيان الحروف المقطعة ثم يتعلمونها مركبة قاله عبد العزيز ابن يحيى يعني إذ لم يكن فيهم من يحسن الكتابة إلا بعض المدن كأهل الحيرة وبعض طيء وبعض قريش وكنانة من أهل مكة ولقد تقلبت أحوال العرب في القراءة والكتابة تقلبات متنوعة في العصور المختلفة فكانوا بادئ الأمر أهل كتابة لأنهم نزحوا إلى البلاد العربية من العراق بعد تبلبل الألسن والعراق مهد القراءة والكتابة وقد أثبت التاريخ أن ضخم بن إرم أول من علم العرب الكتابة ووضع حروف المعجم التسعة والعشرين ثم إن العرب لما بادوا " أي سكنوا البادية " تناست القبائل البادية بطول الزمان القراءة والكتابة وشغلهم حالهم عن تلقي مبادئ العلوم فبقيت الكتابة في الحواضر كحواضر اليمن والحجاز ثم لما تفرقوا بعد سيل العرم نقلوا الكتابة إلى المواطن التي نزلوها فكانت طيء بنجد يعرفون القراءة والكتابة وهم الفرقة الوحيدة من القحطانيين ببلاد نجد ولذلك يقول أهل الحجاز ونجد إن الذين وضعوا الكتابة ثلاثة نفر من بني بولان من طيء يريدون من الوضع أنهم علموها للعدنانيين بنجد وكان أهل الحيرة يعلمون الكتابة فالعرب بالحجاز تزعم أن الخط تعلموه عن أهل الأنبار والحيرة وقصة المتلمس في كتب الأدب تذكرنا بذلك إذ كان الذي قرأ له الصحيفة غلام من أغيلمة الحيرة . ولقد كان الأوس والخزرج مع أنهم من نازحة القحطانيين قد تناسوا الكتابة إذ كانوا أهل زرع وفروسية وحروب فقد ورد في السير أنه لم يكن أحد من الأنصار يحسن الكتابة بالمدينة وكان في أسرى المشركين يوم بدر من يحسن ذلك فكان من لا مال له من الأسرى يفتدى بأن يعلم عشرة من غلمان أهل المدينة الكتابة فتعلم زيد بن ثابت في جماعة وكانت الشفاء بنت عبد الله القرشية تحسن الكتابة وهي علمتها لحفصة أم المؤمنين . ويوجد في أساطير العرب ما يقتضي أن أهل الحجاز تعلموا الكتابة من أهل مدين في جوارهم فقد ذكروا قصة وهي أن المحض ابن جندل من أهل مدين وكان ملكا كان له ستة أبناء وهم : أبجد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت . فجعل أبناءه ملوكا على بلاد مدين وما حولها فجعل أبجد بمكة وجعل هوزا وحطيا بالطائف ونجد وجعل الثلاثة الباقين بمدين وأن كلمنا كان في زمن شعيب وهو من الذين أخذهم عذاب يوم الظلة قالوا فكانت حروف الهجاء أسماء هؤلاء الملوك ثم ألحقوا بها ثخذ وضغظ فهذا يقتضي أن القصة مصنوعة لتلقين الأطفال حروف المعجم بطريقة سهلة تناسب عقولهم وتقتضي أن حروف ثخذ وضغظ لم تكن في معجم أهل مدين فألحقها أهل الحجاز وحقا إنها من الحروف غير الكثيرة الاستعمال ولا الموجودة في كل اللغات إلا أن هذا القول يبعده عدم وجود جميع الحروف في فواتح السور بل الموجود نصفها كما سيأتي بيانه من كلام الكشاف .
القول السادس عشر أنها حروف قصد منها تنبيه السامع مثل النداء المقصود به التنبيه في قولك يا فتى لإيقاظ ذهن السامع قاله ثعلب والأخفش وأبو عبيدة قال ابن عطية كما يقول في إنشاد أشهر القصائد لا وبل لا قال الفخر في تفسير سورة العنكبوت : إن الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة أو مشغول البال يقدم على الكلام المقصود شيئا ليلفت المخاطب إليه بسبب ذلك المقدم ثم يشرع في المقصود فقد يكون ذلك المقدم كلاما مثل النداء وحروف الاستفتاح وقد يكون المقدم صوتا كمن يصفق ليقبل عليه السامع فاختار الحكيم للتنبيه حروفا من حروف التهجي لتكون دلالتها على قصد التنبيه متعينة إذ ليس لها مفهوم فتمحضت للتنبيه على غرض مهم .
القول السابع عشر أنها إعجاز بالفعل وهو أن النبي الأمي الذي لم يقرأ قد نطق بأصول القراءة كما ينطق بها مهرة الكتبة فيكون النطق بها معجزة وهذا بين البطلان لأن الأمي لا يعسر عليه النطق بالحروف .
القول الثامن عشر أن الكفار كانوا يعرضون عن سماع القرآن فقالوا " لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه " فأوردت لهم هذه الحروف ليقبلوا على طلب فهم المراد منها فيقع إليهم ما يتلوها بلا قصد قاله قطرب وهو قريب من القول السادس عشر .
القول التاسع عشر أنها علامة لأهل الكتاب وعدوا بها من قبل أنبيائهم أن القرآن يفتتح بحروف مقطعة .
A E