وقد شاع هذا في استعمال القرآن قال تعالى ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ) وقال ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) وغير ذلك من الآيات التي خوطب بها المشركون مع أنهم أشركوا مع الله غيره ولم ينكروا إلهية الله .
وذكر هذا المتعلق إلزاما لهم بشناعة إثبات إلهية لغير الله لأن النصارى لما ادعوا حلول الله في ذات عيسى توزعت الإلهية وبطلت الوحدانية . وقد تقدم بيان هذا المذهب عند تفسير قوله تعالى ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ) في هذه السورة .
وجواب عيسى عليه السلام بقوله ( سبحانك ) تنزيه لله تعالى عن مضمون تلك المقالة . وكانت المبادرة بتنزيه الله تعالى أهم من تبرئته نفسه على أنها مقدمة للتبري لأنه إذا كان ينزه الله عن ذلك فلا جرم أنه لا يأمر به أحدا . وتقدم الكلام على ( سبحانك ) في قوله تعالى ( قالوا سبحانك لا علم لنا ) في سورة البقرة .
وبرأ نفسه فقال : ( ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ) ؛ فجملة ( ما يكون لي أن أقول ) مستأنفة لأنها جواب السؤال . وجملة ( سبحانك ) تمهيد .
وقوله ( ما يكون لي ) مبالغة في التبرئة من ذلك أي ما يوجد لدي قول ما ليس لي بحق فاللام في قوله ( ما يكون لي ) للاستحقاق أي ما يوجد حق أن أقول . وذلك أبلغ من لم أقله لأنه نفى أن يوجد استحقاقه ذلك القول .
والباء في قوله ( بحق ) زائدة في خبر ( ليس ) لتأكيد النفي الذي دلت عليه ( ليس ) . واللام في قوله ( ليس لي بحق ) متعلقة بلفظ ( حق ) على رأي المحققين من النحاة أنه يجوز تقديم المتعلق على متعلقه المجرور بحرف الجر . وقدم الجار والمجرور للتنصيص على أنه ظرف لغو متعلق ( بحق ) لئلا يتوهم أنه ظرف مستقر صفة ل ( حق ) حتى يفهم منه أنه نفى كون ذلك حقا له ولكنه حق لغيره الذين قالوه وكفروا به وللمبادرة بما يدل على تنصله من ذلك بأنه ليس له . وقد أفاد الكلام تأكيد كون ذلك ليس حقا له بطريق المذهب الكلامي لأنه نفى أن يباح له أن يقول ما لا يحق له فعلم أن ذلك ليس حقا له وأنه لم يقله لأجل كونه كذلك . فهذا تأكيد في غاية البلاغة والتفنن .
ثم ارتقى في التبرئ فقال ( إن كنت قلته فقد علمته ) فالجملة مستأنفة لأنها دليل وحجة لمضمون الجملة التي قبلها فكانت كالبيان فلذلك فصلت . والضمير المنصوب في ( قلته ) عائد إلى الكلام المتقدم . ونصب القول للمفرد إذا كان في معنى الجملة شائع كقوله تعالى ( كلا إنها كلمة هو قائلها ) فاستدل على انتفاء أن يقوله بأن الله يعلم أنه لم يقله وذلك لأنه يتحقق أنه لم يقله فلذلك أحال على علم الله تعالى . وهذا كقول العرب : يعلم الله أني لم أفعل كما قال الحارث بن عباد : .
" لم أكن من جناتها علم الله وأني لحرها اليوم صال ولذلك قال : ( تعلم ما في نفسي ) فجملة ( تعلم ما في نفسي ) بيان لجملة الشرط ( إن كنت قلته فقد علمته ) فلذلك فصلت .
والنفس تطلق على العقل وعلى ما به الإنسان إنسان وهي الروح الإنسان ي وتطلق على الذات . والمعنى هنا : تعلم ما أعتقده أي تعلم ما أعلمه لأن النفس مقر العلوم في المتعارف .
وقوله ( ولا أعلم ما في نفسك ) اعتراض نشأ عن ( تعلم ما في نفسي ) لقصد الجمع بين الأمرين في الوقت الواحد وفي كل حال . وذلك مبالغة في التنزيه وليس له أثر في التبرئ والتنصل فلذلك تكون الواو اعتراضية .
وإضافة النفس إلى اسم الجلالة هنا بمعنى العلم الذي لم يطلع عليه غيره أي ولا أعلم ما تعلمه أي مما انفردت بعمله . وقد حسنه هنا المشاكلة كما أشار إليه في الكشاف .
وفي جواز إطلاق النفس على ذات الله تعالى بدون مشاكلة خلاف ؛ فمن العلماء من منع ذلك واليه ذهب السعد والسيد وعبد الحكيم في شروح المفتاح والتلخيص . وهؤلاء يجعلون ما ورد من ذلك في الكتاب نحو ( ويحذركم الله نفسه ) من قبيل المتشابه . ومن العلماء من جوز ذلك مثل إمام الحرمين كما نقله ابن عرفة في التفسير عند قوله تعالى ( كتب ربكم على نفسه الرحمة ) في سورة الأنعام ويشهد له تكرر استعماله في القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث القدسي ( فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ) .
A E