وقد وقفت قصة سؤال المائدة عند هذا المقدار وطوي خبر ماذا حدث بعد نزولها لأنه لا أثر له في المراد من القصة وهو العبرة بحال إيمان الحواريين وتعلقهم بما يزيدهم يقينا وبقربهم إلى ربهم وتحصيل مرتبة الشهادة على من يأتي بعدهم وعلى ضراعة المسيح الدالة على عبوديته وعلى كرامته عند ربه إذ أجاب دعوته وعلى سعة القدرة . وأما تفصيل ما حوته المائدة وما دار بينهم عند نزولها فلا عبرة فيه . وقد أكثر فيه المفسرون بأخبار واهية الأسانيد سوى ما أخرجه الترمذي في أبواب التفسير عن الحسن بن قزعة بسنده إلى عمار بن ياسر قال : قال رسول الله A " أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما " الحديث . قال الترمذي : هذا الحديث رواه غير واحد عن عمار بن ياسر موقوفا ولا نعرفه مرفوعا إلا من حديث الحسن بن قزعة ولا نعلم للحديث المرفوع أصلا .
واختلف المفسرون في أن المائدة هل نزلت من السماء أو لم تنزل . فعن مجاهد والحسن أنهم لما سمعوا قوله تعالى : ( فمن يكفر بعد منكم ) الآية خافوا فاستعفوا من طلب نزولها فلم تنزل . وقال الجمهور : نزلت . وهو الظاهر لأن قوله تعالى ( إني منزلها عليكم ) وعد لا يخلف وليس مشروطا بشرط ولكنه معقب بتحذير من الكفر وذلك حاصل أثره عند الحواريين وليسوا ممن يخشى العود إلى الكفر سواء نزلت المائدة أم لم تنزل .
وأما النصارى فلا يعرفون خبر نزول المائدة من السماء وكم من خبر أهملوه في الأناجيل .
( وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحنك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علم الغيوب [ 116 ] ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد [ 117 ] إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم [ 118 ] ) ( وإذ قال الله ) عطف على قوله : ( إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك ) فهو ما يقوله الله يوم يجمع الرسل وليس مما قاله في الدنيا لأن عبادة عيسى حدثت بعد رفعه ولقوله ( هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ) . فقد أجمع المفسرون على أن المراد به يوم القيامة . وأن قوله ( وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس ) قول يقوله يوم القيامة . وهذا مبدأ تقريع النصارى بعد أن فرغ من تقريع اليهود من قوله ( إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك ) إلى هنا . وتقريع النصارى هو المقصود من هذه الآيات كما تقدم عند قوله تعالى ( يوم يجمع الله الرسل ) الآية فالاستفهام هنا كالاستفهام في قوله تعالى للرسل ( ماذا أجبتم ) والله يعلم أن عيسى لم يقل ذلك ولكن أريد إعلان كذب من كفر من النصارى .
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله ( أأنت قلت للناس ) يدل على أن الاستفهام متوجه إلى تخصيصه بالخبر دون غيره مع أن الخبر حاصل لا محالة . فقول قائلين : اتخذوا عيسى وأمه إلهين واقع . وإنما ألقي الاستفهام لعيسى أهو الذي قال لهم ذلك تعريضا بالإرهاب والوعيد بتوجه عقوبة إلى من قال هذا القول إن تنصل منه عيسى فيعلم أحبارهم الذين اخترعوا هذا القول أنهم المراد بذلك .
والمعنى أنه إن لم يكن هو قائل ذلك فلا عذر لمن قاله لأنهم زعموا أنهم يتبعون أقوال عيسى وتعاليمه فلو كان هو القائل لقال : اتخذوني وأمي ولذلك جاء التعبير بهذين اللفظين في الآية .
والمراد بالناس أهل دينه .
وقوله ( من دون الله ) متعلق ب ( اتخذوني ) وحرف ( من ) صلة وتوكيد .
وكلمة ( دون ) اسم للمكان المجاوز ويكثر أن يكون مكانا مجازيا مرادا به المغايرة فتكون بمعنى " سوى " . وانظر ما تقدم آنفا عند قوله تعالى ( قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا ) . والمعنى اتخذوني وأمي إلهين سوى الله .
A E