وقوله ( إنك أنت علام الغيوب ) علة لقوله ( تعلم ما في نفسي ) ولذلك جيء ب ( إن ) المفيدة التعليل . وقد جمع فيه أربع مؤكدات وطريقة حصر فضمير الفصل أفاد الحصر وإن وصيغة الحصر وجمع الغيوب وأداة الاستغراب .
وبعد أن تبرأ من أن يكون أمر أمته بما اختلقوه انتقل فبين أنه أمرهم بعكس ذلك حسبما أمره الله تعالى فقال ( ما قلت لهم إلا ما أمرتني به ) فقوله ( ما قلت لهم ) ارتقاء في الجواب فهو استئناف بمنزلة الجواب الأول وهو ( ما يكون لي أن أقول ) الخ...صرح هنا بما قاله لأن الاستفهام عن مقاله . والمعنى : ما تجاوزت فيما قلت حد التبليغ لما أمرتني به فالموصول وصلته هو مقول ( ما قلت لهم ) وهو مفرد دال على جمل فلذلك صح وقوعه منصوبا بفعل القول .
و ( أن ) مفسرة ( أمرتني ) لأن الأمر فيه معنى القول دون حروفه وجملة ( اعبدوا الله ربي وربكم ) تفسيرية ل ( أمرتني ) . واختير ( أمرتني ) على ( قلت لي ) مبالغة في الأدب . ولما كان ( أمرتني ) متضمنا معنى القول كانت جملة ( اعبدوا الله ربي وربكم ) هي المأمور بأن يبلغه لهم فالله قال له : قل لهم اعبدوا الله ربي وربكم . فعلى هذا يكون ( ربي وربكم ) من مقول الله تعالى لأنه أمره بأن يقول هذه العبارة ولكن لما عبر عن ذلك بفعل ( أمرتني به ) صح تفسيره بحرف ( أن ) التفسيرية فالذي قاله عيسى هو عين اللفظ الذي أمره الله بأن يقوله . فلا حاجة إلى ما تكلف به في الكشاف على أن صاحب الانتصاف جوز وجها آخر وهو أن يكون التفسير جرى على حكاية القول المأمور به بالمعنى فيكون الله تعالى قال له : قل لهم أن يعبدوا ربك وربهم . فلما حكاه عيسى قال : اعبدوا الله ربي وربكم اه . وهذا التوجيه هو الشائع بين أهل العلم حتى جعلوا الآية مثالا لحكاية القول بالمعنى . وأقول : هو استعمال فصيح . فال ابن عطية في تفسير قوله تعالى ( مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ) في سورة الأنعام إذا أخبرت أنك قلت لغائب أو قيل له أو أمرت أن يقال له : فلك في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها فتجيء بلفظ المخاطبة ولك أن تأتي بالمعنى في الألفاظ بذكر غائب دون مخاطبة اه . وعندي أنه ضعيف في هذه الآية .
ثم تبرأ من تبعتهم فقال ( وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم ) أي كنت مشاهدا لهم ورقيبا يمنعهم من أن يقولوا مثل هذه المقالة الشنعاء .
و ( ما دمت ) ( ما ) فيه ظرفية مصدرية و ( دام ) تامة لا تطلب منصوبا و ( فيهم ) متعلق ب ( دمت ) أي بينهم وليس خبرا ل ( دام ) على الأظهر لأن ( دام ) التي تطلب خبرا هي التي يراد منها الاستمرار على فعل معين هو مضمون خبرها أما هي هنا فهي بمعنى البقاء أي ما بقيت فيهم أي ما بقيت في الدنيا .
ولذلك فرع عنه قوله ( فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم ) أي فلما قضيت بوفاتي لأن مباشر الوفاة هو ملك الموت . والوفاة الموت وتوفاه الله أماته أي قضى به وتوفاه ملك الموت قبض روحه وأماته .
وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى ( إني متوفيك ) في سورة آل عمران .
والمعنى : أنك لما توفيتني قد صارت الوفاة حائلا بيني وبينهم فلم يكن لي أن أنكر عليهم ضلالهم ولذلك قال ( كنت أنت الرقيب عليهم ) فجاء بضمير الفصل الدال على القصر أي كنت أنت الرقيب لا أنا إذ لم يبق بيني وبين الدنيا اتصال . والمعنى أنك تعلم أمرهم وترسل إليهم من يهديهم متى شئت . وقد أرسل إليهم محمدا صلى الله عليه وسلم وهداهم بكل وجوه الاهتداء . وأقصى وجوه الاهتداء إبلاغهم ما سيكون في شأنهم يوم القيامة .
وقوله ( وأنت على كل شيء شهيد ) تذييل والواو اعتراضية إذ ليس معطوفا على ما تقدم لئلا يكون في حكم جواب ( لما ) .
وقوله ( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) فوض أمرهم إلى الله فهو أعلم بما يجازيهم به لأن المقام مقام إمساك عن إبداء رغبة لشدة هول ذلك اليوم وغاية ما عرض به عيسى أنه جوز المغفرة لهم رحمة منه بهم .
وقوله ( فإنك أنت العزيز الحكيم ) ذكر العزيز كناية عن كونه يغفر عن مقدرة وذكر الحكيم لمناسبته للتفويض أي المحكم للأمور العالم بما يليق بهم .
A E