وظاهر عطف أحد الاسمين على الآخر في مواضع من القرآن في هذه الآية وفي الآيتين بعدها في هذه السورة وفي آية سورة الممتحنة أنهما ليسا من الأسماء المترادفة ؛ لأن التزام العطف بهذا الترتيب يبعد أن يكون لمجرد التأكيد فليس عطف أحدهما على الآخر من قبيل عطف المرادف لمجرد التأكيد كقول عدي : .
" وألفى قولها كذبا ومينا وقد ترك علماء اللغة بيان التفرقة بين العداوة والبغضاء وتابعهم المفسرون على ذلك ؛ فلا تجد من تصدى للفرق بينهما سوى الشيخ ابن عرفه التونسي فقال في تفسيره " العداوة أعم من البغضاء لأن العداوة سبب في البغضاء ؛ فقد يتعادى الأخ مع أخيه ولا يتمادى على ذلك حتى تنشأ عنه المباغضة وقد يتمادى على ذلك " اه .
ووقع لأبي البقاء الكفوي في كتاب الكليات أنه قال " العداوة أخص من البغضاء لأن كل عدو مبغض وقد يبغض من ليس بعدو " . وهو يخالف كلام ابن عرفة . وفي تعليليهما مصادرة واضحة فإن كانت العداوة أعم من البغضاء زادت فائدة العطف لأنه يصير في معنى الاحتراس وإن كانت العداوة أخص من البغضاء لم يكن العطف إلا للتأكيد لأن التأكيد يحصل بذكر لفظ يدل على بعض مطلق من معنى الموكد فيتقرر المعنى ولو بوجه أعم أو أخص وذلك يحصل به معنى التأكيد .
وعندي : أن كلا الوجهين غير ظاهر والذي أرى أن بين معنيي العداوة والبغضاء التضاد والتباين ؛ فالعداوة كراهية تصدر عن صاحبها : معاملة بجفاء أو قطيعة أو إضرار لأن العداوة مشتقة من العدو وهو التجاوز والتباعد فإن مشتقات مادة " ع د و " كلها تحوم حول التفرق وعدم الوئام . وأما البغضاء فهي شدة البغض وليس في مادة " ب غ ض " إلا معنى جنس الكراهية فلا سبيل إلى معرفة اشتقاق لفظها من مادتها . نعم يمكن أن يرجع فيه إلى طريقة القلب وهو من علامات الاشتقاق فإن مقلوب بغض يكون غضب لا غير فالبغضاء شدة الكراهية غير مصحوبة بعدو فهي مضمرة في النفس . فإذا كان كذلك لم يصح اجتماع معنيي العداوة والبغضاء في موصوف واحد في وقت واحد فيتعين أن يكون إلقاؤهما بينهم على معنى التوزيع أي أغرينا العداوة بين بعض منهم والبغضاء بين بعض آخر .
فوقع في هذا النظم إيجاز بديع لأنه يرجع إلى الاعتماد على علم المخاطبين بعدم استقامة اجتماع المعنيين في موصوف واحد .
ومن اللطائف ما ذكره ابن هشام في شرح قصيدة كعب بن زهير عند قول كعب : .
لكنها خلة قد سيط من دمها ... فجع وولع وإخلاف وتبديل أن الزمخشري قال : إنه رأى نفسه في النوم يقول : العداوة مشتقة من عدوة الوادي أي جانبه لأن المتعاديين يكون أحدهما مفارقا للآخر فكأن كل واحد منهما على عداوة اه . فيكون مشتقا من الاسم الجامد وهو بعيد .
وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم كان عقابا في الدنيا لقوله ( إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ) جزاء على نكثهم العهد .
وأسباب العداوة والبغضاء شدة الاختلاف : فتكون من اختلافهم في نحل الدين بين يعاقبه وملكانية ونسطورية وهراتقة " بروتستانت " ؛ وتكون من التحاسد على السلطان ومتاع الدنيا كما كان بين ملوك النصرانية وبينهم وبين رؤساء ديانتهم .
فإن قيل : كيف أغريت بينهم العداوة وهم لم يزالوا إلبا على المسلمين ؟ فجوابه : أن العداوة ثابتة بينهم في الدين بانقسامهم فرقا كما قدمناه في سورة النساء عند قوله تعالى ( وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ) وذلك الانقسام يجر إليهم العداوة وخذل بعضهم بعضا . ثم إن دولهم كانت منقسمة ومتحاربة ولم تزل كذلك وإنما تألبوا في الحروب الصليبية على المسلمين ثم لم يلبثوا أن تخاذلوا وتحاربوا ولا يزال الأمر بينهم كذلك إلى الآن . وكم ضاعت مساعي الساعين في جمعهم على كلمة واحدة وتأليف اتحاد بينهم وكان اختلافهم لطفا بالمسلمين في مختلف عصور التاريخ الإسلامي على أن اتفاقهم على أمة أخرى لا ينافي تمكن العداوة فيما بينهم وكفى بذلك عقابا لهم على نسيانهم ما ذكروا به .
وقيل : الضمير عائد على الفريقين أي بين اليهود والنصارى ولا إشكال في تجسم العداوة بين الملتين .
A E