A E ( ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون [ 14 ] ) ذكر بعد ميثاق اليهود ميثاق النصارى . وجاءت الجملة على شبه اشتغال العامل عن المعمول بضميره حيث قدم متعلق ( أخذنا ميثاقهم ) وفيه اسم ظاهر وجيء بضميره مع العامل للنكتة الداعية للاشتغال من تقرير المتعلق وتثبيته في الذهن إذ يتعلق الحكم باسمه الظاهر وبضميره فالتقدير : وأخذنا من الذين قالوا : إنا نصارى ميثاقهم وليس تقديم المجرور بالحرف لقصد الحصر . وقيل : ضمير ( ميثاقهم ) عائد إلى اليهود والإضافة على معنى التشبيه أي من النصارى أخذنا ميثاق اليهود أي مثله فهو تشبيه بليغ حذفت الأداة فانتصب المشبه به . وهذا بعيد لأن ميثاق اليهود لم يفصل في الآية السابقة حتى يشبه به ميثاق النصارى .
وعبر عن النصارى ب ( الذين قالوا إنا نصارى ) هنا وفي قوله الآتي ( ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ) تسجيلا عليهم بأن اسم دينهم مشير إلى أصل من أصوله وهو أن يكون أتباعه أنصارا لما يأمر به الله ( وإذ قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله ) . ومن جملة ذلك أن ينصروا القائم بالدين بعد عيسى من أتباعه مثل بولس وبطرس وغيرهما من دعاة الهدى ؛ وأعظم من ذلك كله أن ينصروا النبي المبشر به في التوراة والإنجيل الذي يجيء بعد عيسى قبل منتهى العالم ويخلص الناس من الضلال ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ) الآية . فجميع أتباع الرسل قد لزمهم ما التزمه أنبياؤهم وبخاصة النصارى فهذا اللقب وهو النصارى حجة عليهم قائمة بهم متلبسة بجماعتهم كلها .
ويفيد لفظ ( قالوا ) بطريق التعريض الكنائي أن هذا القول موفى به وأنه يجب أن يوفى به . هذا إذا كان النصارى جمعا لناصري أو نصراني على معنى النسبة إلى النصر مبالغة كقولهم : شعراني ولحياني أي الناصر الشديد النصر ؛ فإن كان النصارى اسم جمع ناصري بمعنى المنسوب إلى الناصري والناصري عيسى لأنه ظهر من مدينة الناصرة . فالناصري صفة عرف بها المسيح عليه السلام في كتب اليهود لأنه ظهر بدعوة الرسالة من بلد الناصرة في فلسطين ؛ فلذلك كان معنى النسبة إليه النسبة إلى طريقته وشرعه ؛ فكل من حاد عن شرعه لم يكن حقيقا بالنسبة إليه إلا بدعوى كاذبة فلذلك قال ( قالوا إنا نصارى ) . وقيل : إن النصارى جمع نصراني منسوب إلى النصر : كما قالوا : شعراني ولحياني لأنهم قالوا : نحن أنصار الله . وعليه فمعنى ( قالوا : إنا نصارى ) أنهم زعموا ذلك بقولهم ولم يؤيدوه بفعلهم .
وقد أخذ الله على النصارى ميثاقا على لسان المسيح عليه السلام . وبعضه مذكور في مواضع من الأناجيل .
وقوله ( فأغرينا بينهم العداوة ) حقيقة الإغراء حث أحد على فعل وتحسينه إليه حتى لا يتوانى في تحصيله ؛ فاستعير الإغراء لتكوين ملازمة العداوة والبغضاء في نفوسهم أي لزومهما لهم فيما بينهم شبه تكوين العداوة والبغضاء مع استمرارهما فيهم بإغراء أحد أحدا بعمل يعمله تشبيه معقول بمحسوس . ولما دل الظرف وهو ( بينهم ) على أنهما أغريتا بهم استغني عن ذكر متعلق ( أغرينا ) . وتقدير الكلام : فأغرينا العداوة والبغضاء بهم كائنتين بينهم . ويشبه أن يكون العدول على تعدية ( أغرينا ) بحرف الجر إلى تعليقه بالظرف قرينة أو تجريدا لبيان أن المراد ب ( أغرينا ) ألقينا .
وما وقع في الكشاف من تفسير ( أغرينا ) بمعنى ألصقنا تطوح عن المقصود إلى رائحة الاشتقاق من الغراء وهو الدهن الذي يلصق الخشب به وقد تنوسي هذا المعنى في الاستعمال . والعداوة والضمير المجرور بإضافة بين إليه يعود إلى النصارى لتنتسق الضمائر .
والعداوة والبغضاء اسمان لمعنيين من جنس الكراهية الشديدة فهما ضدان للمحبة .
A E