وقوله ( وسوف ينبئهم الله ) تهديد لأن المراد بالإنباء إنباء المؤاخذة بصنيعهم كقوله ( فسوف تعلمون ) . وهذا يحتمل أن يحصل في الآخرة فالإنباء على حقيقنه ويحتمل أن يحصل في الدنيا فالإنباء مجاز في تقدير الله لهم حوادث يعرفون بها سوء صنيعتهم .
( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين [ 15 ] يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم [ 16 ] ) بعد أن ذكر من أحوال فريقي أهل الكتاب وأنبائهم ما لا يعرفه غير علمائهم وما لا يستطيعون إنكاره أقبل عليهم بالخطاب بالموعظة ؛ إذ قد تهيأ من ظهور صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ما يسهل إقامة الحجة عليهم ولذلك ابتدئ وصف الرسول بأنه يبين لهم كثيرا مما كانوا يخفون من الكتاب ثم أعقبه بأنه يعفو عن كثير .
ومعنى ( يعفو ) يعرض ولا يظهر وهو أصل مادة العفو . يقال : عفا الرسم بمعنى لم يظهر وعفاه : أزال ظهوره . ثم قالوا : عفا عن الذنب بمعنى أعرض ثم قالوا : عفا عن المذنب بمعنى ستر عنه ذنبه ويجوز أن يراد هنا معنى الصفح والمغفرة أي ويصفح عن ذنوب كثيرة أي يبين لكم دينكم ويعفو عن جهلكم .
وجملة ( قد جاءكم من الله نور ) بدل من جملة ( قد جاءكم رسولنا ) بدل اشتمال لأن مجيء الرسول اشتمل على مجيء الهدى والقرآن فوزانها وزان ( علمه ) من قولهم : نفعني زيد علمه ولذلك فصلت عنها وأعيد حرف ( قد ) الداخل على الجملة المبدل منها زيادة في تحقيق مضمون جملة البدل لأن تعلق بدل الاشتمال بالمبدل منه أضعف من تعلق البدل المطابق .
وضمير ( به ) راجع إلى الرسول أو إلى الكتاب المبين .
وسبل السلام : طرق السلامة التي لا خوف على السائر فيها . وللعرب طرق معروفة بالأمن وطرق معروفة بالمخافة مثل وادي السباع الذي قال فيه سحيم بن وثيل الرياحي : .
ومررت على وادي السباع ولا أرى ... كوادي السباع حين يظلم واديا .
أقل به ركب أتوه تثية ... وأخوف إلا ما وقى الله ساريا فسبيل السلام استعارة لطرق الحق . والظلمات والنور استعارة للضلال والهدى . والصراط المستقيم مستعار للإيمان .
( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير [ 17 ] ) هذا من ضروب عدم الوفاء بميثاق الله تعالى .
كان أعظم ضلال النصارى ادعاؤهم إلهية عيسى عليه السلام فإبطال زعمهم ذلك هو أهم أحوال إخراجهم من الظلمات إلى النور وهديهم إلى الصراط المستقيم فاستأنف هذه الجملة ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ) استئناف البيان . وتعين ذكر الموصول هنا لأن المقصود بيان ما في هذه المقالة من الكفر لا بيان ما عليه النصارى من الضلال لأن ضلالهم حاصل لا محالة إذا كانت هذه المقالة كفرا .
A E