واللعن هو الإبعاد والمراد هنا الإبعاد من رحمة الله تعالى ومن هديه إذ استوجبوا غضب الله لأجل نقض الميثاق .
( وجعلنا قلوبهم قاسية ) قساوة القلب مجاز إذ أصلها الصلابة والشدة فاستعيرت لعدم تأثر القلوب بالمواعظ والنذر . وقد تقدم في قوله تعالى ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك ) . وقرأ الجمهور : ( قاسية ) بصيغة اسم الفاعل . وقرأ حمزة والكسائي وخلف : " قسية " فيكون بوزن فعيلة من قسا يقسو .
وجملة ( يحرفون الكلم عن مواضعه ) استئناف أو حال من ضمير ( لعناهم ) .
والتحريف : الميل بالشيء إلى الحرف والحرف هو الجانب . وقد كثر في كلام العرب استعارة معاني السير وما يتعلق به إلى معاني العمل والهدى وضده ؛ فمن ذلك قولهم : السلوك والسيرة ؛ والسعي ؛ ومن ذلك قولهم : الصراط المستقيم وصراطا سويان وسواء السبيل وجادة الطريق والطريقة الواضحة وسواء الطريق ؛ وفي عكس ذلك قالوا : المرواغة والانحراف وقالوا : بنيات الطريق ويعبد الله على حرف ويشعب الأمور . وكذلك ما هنا أي يعدلون بالكلم النبوية عن مواضعها فيسيرون بها في غير مسالكها وهو تبديل معاني كتبهم السماوية . وهذا التحريف يكون غالبا بسوء التأويل اتباعا للهوى ويكون بكتمان أحكام كثيرة مجاراة لأهواء العامة قيل : ويكون بتبديل ألفاظ كتبهم . وعن ابن عباس : ما يدل على أن التحريف فساد التأويل . وقد تقدم القول في ذلك عند قوله تعالى ( من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ) في سورة النساء .
وجيء بالمضارع للدلالة على استمرارهم .
وجملة ( ونسوا حظا ) معطوفة على جملة ( يحرفون ) . والنسيان مراد به الإهمال المفضي إلى النسيان غالبا . وعبر عنه بالفعل الماضي لأن النسيان لا يتجدد فإذا حصل مضى حتى يذكره مذكر . وهو وإن كان مرادا به الإهمال فإن في صوغه بصيغة الماضي ترشيحا للاستعارة أو الكناية لتهاونهم بالذكرى .
والحظ النصيب وتنكيره هنا للتعظيم أو التكثير بقرينة الذم . وما ذكروا به هو التوراة .
وقد جمعت الآية من الدلائل على قلة اكتراثهم بالدين ورقة اتباعهم ثلاثة أصول من ذلك : وهي التعمد إلى نقض ما عاهدوا عليه من الامتثال والغرور بسوء التأويل والنسيان الناشئ عن قلة تعهد الدين وقلة الاهتمام به .
والمقصود من هذا أن نعتبر بحالهم ونتعظ من الوقوع في مثلها . وقد حاط علماء الإسلام Bهم هذا الدين من كل مسارب التحريف فميزوا الأحكام المنصوصة والمقيسة ووضعوا ألقابا للتمييز بينها ولذلك قالوا في الحكم الثابت بالقياس : يجوز أن يقال : هو دين الله ولا يجوز أن يقال : قاله الله .
وقوله ( ولا تزال تطلع على خائنة منهم ) انتقال من ذكر نقضهم لعهد الله إلى خيسهم بعهدهم مع النبي صلى الله عليه وسلم . وفعل ( لا تزال ) يدل على استمرار لأن المضارع للدلالة على استمرار الفعل لأنه في قوة أن يقال : يدوم اطلاعك . فالاطلاع مجاز مشهور في العلم بالأمر والاطلاع هنا كناية عن المطلع عليه أي لا يزالون يخونون فتطلع على خيانتهم .
والاطلاع افتعال من طلع . والطلوع : الصعود . وصيغة الافتعال فيه لمجرد المبالغة إذ ليس فعله متعديا حتى يصاغ له مطاوع فاطلع بمنزلة تطلع أي تكلف الطلوع لقصد الإشراف .
والمعنى : ولا تزال تكشف وتشاهد خائنة منهم .
والخائنة : الخيانة فهو مصدر على وزن الفاعلة كالعاقبة والطاغية . ومنه ( يعلم خائنة الأعين ) . وأصل الخيانة : عدم الوفاء بالعهد ولعل أصلها إظهار خلاف الباطن . وقيل : ( خائنة ) صفة لمحذوف أي فرقة خائنة .
واستثنى قليلا منهم جبلوا على الوفاء وقد نقض يهود المدينة عهدهم مع رسول الله والمسلمين فظاهروا المشركين في وقعة الأحزاب قال تعالى ( وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم ) . وأمره بالعفو عنهم والصفح حمل على مكارم الأخلاق وذلك فيما يرجع إلى سوء معاملتهم للنبي صلى الله عليه وسلم . وليس المقام مقام ذكر المناواة القومية أو الدينية فلا يعارض هذا قوله في براءة ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) لأن تلك أحكام التصرفات العامة فلا حاجة إلى القول بأن هذه الآية نسخت بآية براءة