والضمير في قوله ( هو أقرب ) عائد إلى العدل المفهوم من ( تعدلوا ) لأن عود الضمير يكتفى فيه بكل ما يفهم حتى قد يعود على ما لا ذكر له نحو ( حتى توارت بالحجاب ) . على أن العرب تجعل الفعل بمعنى المصدر في مراتب : المرتبة الأولى : أن تدخل عليه ( أن ) المصدرية .
الثانية : أن تحذف ( أن ) المصدرية ويبقى النصب بها كقول طرفة : .
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي بنصب " أحضر " في رواية ودل عليه عطف " وأن أشهد " .
الثالثة : أن تحذف ( أن ) ويرفع الفعل عملا على القرينة كما روي بيت طرفة " أحضر " برفع أحضر ومنه قول المثل " تسمع بالمعيدي خير من أن تراه " وفي الحديث " تحمل لأخيك الركاب صدقة " .
الرابعة : عود الضمير على الفعل مرادا به المصدر كما في هذه الآية . وهذه الآية اقتصر عليها النحاة في التمثيل حتى يخيل للناظر أنه مثال فذ في بابه وليس كذلك بل منه قوله تعالى ( وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ) . وأمثلته كثيرة : منها قوله تعالى ( ما لهم به من علم ) فضمير ( به ) عائد إلى القول المأخوذ من ( قالوا ) ومنه قوله تعالى ( ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه ) فضمير ( فهو ) عائد للتعظيم المأخوذ من فعل ( يعظم ) وقول بشار : .
والله رب محمد ... ما إن غدرت ولا نويته أي الغدر .
ومعنى ( أقرب للتقوى ) أي للتقوى الكاملة التي لا يشذ معها شيء من الخير وذلك أن العدل هو ملاك كبح النفس عن الشهوة وذلك ملاك التقوى .
( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم [ 10 ] ) عقب أمرهم بالتقوى بذكر ما وعد الله به المتقين ترغيبا في الامتثال وعطف عليه حال أضداد المتقين ترهيبا . فالجملة مستأنفة استئنافا بيانيا .
ومفعول ( وعد ) الثاني محذوف تنزيلا للفعل منزلة المتعدي إلى واحد .
وجملة ( لهم مغفرة ) مبينة لجملة ( وعد الله الذين آمنوا ) فاستغني بالبيان عن المفعول فصار التقدير : وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجرا عظيما لهم . وإنما عدل عن هذا النظم لما في إثبات المغفرة لهم بطريق الجملة الاسمية من الدلالة على الثبات والتقرر .
والقصر في قوله ( أولئك أصحاب الجحيم ) قصر ادعائي لأنهم لما كانوا أحق الناس بالجحيم وكانوا خالدين فيه جعلوا كالمنفردين به أو هو قصر حقيقي إذا كانت إضافة ( أصحاب ) مؤذنة بمزيد الاختصاص بالشيء كما قالوه في مرادفها وهو ذو كذا كما نبهوا عليه في قوله ( والله عزيز ذو انتقام ) فيكون وجه هذا الاختصاص أنهم الباقون في الجحيم أبدا .
( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون [ 11 ] ) بعد قوله تعالى ( واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به ) أعيد تذكيرهم بنعمة أخرى عظيمة على جميعهم إذ كانت فيها سلامتهم تلك هي نعمة إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم لأنها نعمة يحصل بها ما يحصل من النصر دون تجشم مشاق الحرب ومتالفها . وافتتاح الاستئناف بالنداء ليحصل إقبال السامعين على سماعه . ولفظ ( يا أيها الذين آمنوا ) وما معه من ضمائر الجمع يؤذن بأن الحادثة تتعلق بجماعة المؤمنين كلهم . وقد أجمل النعمة ثم بينها بقوله ( إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم ) .
وقد ذكر المفسرون احتمالات في تعيين القوم المذكورين في هذه الآية . والذي يبدو لي أن المراد قوم يعرفهم المسلمون يومئذ ؛ فيتعين أن تكون إشارة إلى وقعة مشهورة أو قريبة من تاريخ نزول هذه السورة . ولم أر فيما ذكروه ما تطمئن له النفس . والذي أحسب أنها تذكير بيوم الأحزاب ؛ لأنها تشبه قوله ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ) الآية .
A E