والمسلمون عاهدوا الله في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم عدة عهود : أولها عهد الإسلام كما تقدم في صدر هذه السورة . ومنها عهد المسلمين عندما يلاقون الرسول E وهو البيعة أن لا يشركوا بالله شيئا ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم ولا يعصونه في معروف وهو عين العهد الذي ذكره القرآن في سورة الممتحنة عند ذكر بيعة النساء المؤمنات كما ورد في الصحيح أنه كان يبايع المؤمنين على مثل ذلك . ومنها بيعة الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم في موسم الحج سنة ثلاث عشرة من البعثة قبل الهجرة وكانوا ثلاثة وسبعين رجلا التقوا برسول الله بعد الموسم في العقبة ومعهم العباس بن عبد المطلب فبايعوا على أن يمنعوا رسول الله كما يمنعون نساءهم وأبناءهم وعلى أنهم يأوونه إذا هاجر إليهم . وقد تقدم هذه البيعة بيعتان إحداهما سنة إحدى عشرة من البعثة بايعه نفر من الخزرج في موسم الحج . والثانية سنة اثنتي عشرة من البعثة بايع اثنا عشر رجلا من الخزرج في موسم الحج بالعقبة ليبلغوا الإسلام إلى قومهم . ومن المواثيق ميثاق بيعة الرضوان في الحديبية تحت الشجرة سنة ست من الهجرة وفي كل ذلك واثقوا على السمع والطاعة في المنشط والمكره .
ومعنى ( سمعنا وأطعنا ) الاعتراف بالتبليغ والاعتراف بأنهم سمعوا ما طلب منهم العهد عليه . فالسمع أريد بع العلم بما واثقوا عليه ويجوز أن يكون ( سمعنا ) مجازا في الامتثال ( وأطعنا ) تأكيدا له . وهذا من استعمال سمع ومنه قولهم : بايعوا على السمع والطاعة . وقال النابغة يذكر حالة من لدغته حية فأخذوا يرقونه : .
" تناذرها الراقون من سوء سمعها أي من سوء طاعتها للرقية أي عدم نجاح الرقية في سمها . وعقب ذلك بالأمر بالتقوى ؛ لأن النعمة تستحق أن يشكر مسديها . وشكر الله تقواه .
وجملة ( إن الله عليم بذات الصدور ) تذييل للتحذير من إضمار المعاصي ومن توهم أن الله لا يعلم إلا ما يبدو منهم .
وحرف ( إن ) أفاد أن الجملة علة لما قبلها على الأسلوب المقرر في البلاغة في قول بشار : .
" إن ذاك النجاح في التبكير ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون [ 8 ] ) لما ذكرهم بالنعمة عقب ذلك بطلب الشكر للمنعم والطاعة له فأقبل على خطابهم بوصف الإيمان الذي هو منبع النعم الحاصلة لهم .
فالجملة استئناف نشأ عن ترقب السامعين بعد تعداد النعم .
وقد تقدم نظير هذه الآية في سورة النساء ولكن آية سورة النساء تقول ( كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ) وما هنا بالعكس .
ووجه ذلك أن الآية التي في سورة النساء وردت عقب آيات القضاء في الحقوق المبتدأة بقوله ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ) ثم تعرضت لقضية بني أبيرق في قوله ( ولا تكن للخائنين خصيما ) ثم أردفت بأحكام المعاملة بين الرجال والنساء فكان الأهم فيها أمر العدل فالشهادة فلذلك قدم فيها ( كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ) ؛ فالقسط فيها هو العدل في القضاء ولذلك عدي إليه بالباء إذ قال ( كونوا قوامين بالقسط ) .
وأما الآية التي نحن بصدد تفسيرها فهي واردة بعد التذكير بميثاق الله فكان المقام الأول للحض على القيام لله أي الوفاء له بعهودهم له ولذلك عدي قوله ( قوامين ) باللام . وإذ كان العهد شهادة أتبع قوله ( قوامين لله ) بقوله ( شهداء بالقسط ) أي شهداء بالعدل شهادة لا حيف فيها وأولى شهادة بذلك شهادتهم لله تعالى .
وقد حصل من مجموع الآيتين : وجوب القيام بالعدل والشهادة به ووجوب القيام لله والشهادة له .
وتقدم القول في معنى ( ولا يجرمنكم شنآن قوم ) قريبا ولكنه هنا صرح بحرف ( على ) وقد بيناه هنالك .
والكلام على العدل تقدم في قوله ( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) .
A E