فالوضوء مشروع مع الصلاة لا محالة إذ لم يذكر العلماء إلا شرع الصلاة ولم يذكروا شرع الوضوء بعد ذلك فهذه الآية قررت حكم الوضوء ليكون ثبوته بالقرآن . وكذلك الاغتسال فهو مشروع من قبل كما شرع الوضوء بل هو أسبق من الوضوء ؛ لأنه من بقايا الحنيفية التي كانت معروفة حتى أيام الجاهلية وقد وضحنا ذلك في سورة النساء . ولذلك أجمل التعبير عنه هنا وهنالك بقوله هنا ( فاطهروا ) وقوله هنالك ( فاغتسلوا ) فتمحضت الآية لشرع التيمم عوضا عن الوضوء .
ومعنى ( إذا قمتم إلى الصلاة ) إذا عزمتم على الصلاة لأن القيام يطلق في كلام العرب بمعنى الشروع في الفعل قال الشاعر : .
فقام يذود الناس عنها بسيفه ... وقال إلا لا من سبيل إلى هند وعلى العزم على الفعل قال النابغة : .
" قاموا فقالوا حمانا غير مقروب أي عزموا رأيهم فقالوا . والقيام هنا كذلك بقرينة تعديته ب ( إلى ) لتضمينه معنى عمدتم إلى أن تصلوا .
وروى مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم أنه فسر القيام بمعنى الهبوب من النوم وهو مروي عن السدي . فهذه وجوه الأقوال في تفسير معنى القيام في هذه الآية وكلها تؤول إلى أن إيجاب الطهارة لأجل أداء الصلاة .
وأما ما يرجع إلى تأويل معنى الشرط الذي في قوله ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ) الآية . فظاهر الآية الأمر بالوضوء عند كل صلاة لأن الأمر بغسل ما أمر بغسله شرط ب ( إذا قمتم ) فاقتضى طلب غسل هذه الأعضاء عند كل قيام إلى الصلاة . والأمر ظاهر في الوجوب . وقد وقف عند هذا الظاهر قليل من السلف ؛ فروي عن علي بن أبي طالب وعكرمة وجوب الوضوء لكل صلاة ونسبه الطبرسي إلى داود الظاهري ولم يذكر ذلك ابن حزم في المحلى ولم أره لغير الطبرسي . وقال بريدة بن أبي بردة : كان الوضوء واجبا على المسلمين لكل صلاة ثم نسخ ذلك عام الفتح بفعل النبي صلى الله عليه وسلم فصلى يوم الفتح الصلوات الخمس بوضوء واحد وصلى في غزوة خيبر العصر والمغرب بوضوء واحد . وقال بعضهم : هذا حكم خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم . وهذا قول عجيب إن أراد به صاحبه حمل الآية عليه كيف وهي مصدرة بقوله ( يا أيها الذين آمنوا ) . والجمهور حملوا الآية على معنى : إذا قمتم محدثين ولعلهم استندوا في ذلك إلى آية النساء المصدرة بقوله ( لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى إلى قوله ولا جنبا ) الآية . وحملوا ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم من الوضوء لكل صلاة على أنه كان فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم خاصا به غير داخل في هذه الآية وأنه نسخ وجوبه عليه يوم فتح مكة ومنهم من حمله على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلتزم ذلك وحملوا ما كان يفعله الخلفاء الراشدون وابن عمر من الوضوء لفضل إعادة الوضوء لكل صلاة . وهو الذي لا ينبغي القول بغيره . والذين فسروا القيام بمعنى القيام من النوم أرادوا تمهيد طريق التأويل بأن يكون الأمر قد نيط بوجود موجب الوضوء . وإني لأعجب من هذه الطرق في التأويل مع استغناء الآية عنها ؛ لأن تأويلها فيها بين لأنها افتتحت بشرط هو القيام إلى الصلاة فعلمنا أن الوضوء شرط في الصلاة على الجملة ثم بين هذا الإجمال بقوله ( وإن كنتم مرضى إلى قوله أو جاء أحد منكم من الغائط إلى قوله فلم تجدوا ماء فتيمموا ) فجعل هذه الأشياء موجبة للتيمم إذا لم يوجد الماء فعلم من هذا بدلالة الإشارة أن امتثال الأمر يستمر إلى حدوث حادث من هذه المذكورات إما مانع من أصل الوضوء وهو المرض والسفر وإما رافع لحكم الوضوء بعد وقوعه وهو الأحداث المذكور بعضها بقوله ( أو جاء أحد منكم من الغائط ) فإن وجد الماء فالوضوء وإلا فالتيمم فمفهوم الشرط وهو قوله ( وإن كنتم مرضى ) ومفهوم النفي وهو ( فلم تجدوا ماء ) تأويل بين في صرف هذا الظاهر عن معناه بل في بيان هذا المجمل وتفسير واضح لحمل ما فعله الخلفاء على أنه لقصد الفضيلة لا للوجوب .
A E