وما ذكره القرآن من أعضاء الوضوء هو الواجب وما زاد عليه سنة واجبة . وحددت الآية الأيدي ببلوغ المرافق لأن اليد تطلق على ما بلغ الكوع وما إلى المرفق وما إلى الإبط فرفعت الآية الإجمال في الوضوء لقصد المبالغة في النظافة وسكتت في التيمم فعلمنا أن السكوت مقصود وأن التيمم لما كان مبناه على الرخصة اكتفى بصورة الفعل وظاهر العضو ولذلك اقتصر على قوله ( وأيديكم ) في التيمم في هذه السورة وفي سورة النساء .
وهذا من طريق الاستفادة بالمقابلة وهو طريق بديع في الإيجاز أهمله علماء البلاغة وعلماء الأصول فاحتفظ به وألحقه بمسائلهما .
وقد اختلف الأئمة في أن المرافق مغسولة أو متروكة والأظهر أنها مغسولة لأن الأصل في الغاية في الحد أنه داخل في المحدود . وفي المدارك أن القاضي إسماعيل بن إسحاق سئل عن دخول الحد في المحدود فتوقف فيها . ثم قال للسائل بعد أيام : قرأت كتاب سيبويه فرأيت أن الحد داخل في المحدود . وفي مذهب مالك : قولان في دخول المرافق في الغسل وأولاهما دخولهما . قال الشيخ أبو محمد : وإدخالهما فيه أحوط لزوال تكلف التحديد . وعن أبي هريرة : أنه يغسل يديه إلى الإبطين وتؤول عليه بأنه أراد إطالة الغرة يوم القيامة . وقيل : تكره الزيادة .
وقوله ( وأرجلكم ) قرأه نافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب بالنصب عطفا على ( وأيديكم ) وتكون جملة ( وامسحوا برؤوسكم ) معترضة بين المتعاطفين . وكأن فائدة الاعتراض الإشارة إلى ترتيب أعضاء الوضوء لأن الأصل في الترتيب الذكري أن يدل على الترتيب الوجودي فالأرجل يجب أن تكون مغسولة ؛ إذ حكمة الوضوء وهي النقاء والوضاءة والتنظف والتأهب لمناجاة الله تعالى تقتضي أن يبالغ في غسل ما هو أشد تعرضا للوسخ ؛ فإن الأرجل تلاقي غبار الطرقات وتفرز الفضلات بكثرة حركة المشي ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بمبالغة الغسل فيها وقد نادى بأعلى صوته الذي لم يحسن غسل رجليه ( ويل للأعقاب من النار ) .
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم وخلف بخفض ( وأرجلكم ) . وللعلماء في هذه القراءة تأويلات : منهم من أخذ بظاهرها فجعل حكم الرجلين المسح دون الغسل وروي هذا عن ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وقتادة . وعن أنس بن مالك أنه بلغه أن الحجاج خطب يوما بالأهواز فذكر الوضوء فقال " إنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما " فسمع ذلك أنس ابن مالك فقال : صدق الله وكذب الحجاج قال الله تعالى ( وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ) . ورويت عن أنس رواية أخرى : قال نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل وهذا أحسن تأويل لهذه القراءة فيكون مسح الرجلين منسوخا بالسنة ؛ ففي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قوما يتوضؤون وأعقابهم تلوح فنادى بأعلى صوته ( ويل للأعقاب من النار ) مرتين . وقد أجمع الفقهاء بعد عصر التابعين على وجوب غسل الرجلين في الوضوء ولم يشذ عن ذلك إلا الإمامية من الشيعة قالوا : ليس في الرجلين إلا المسح وإلا ابن جرير الطبري : رأى التخيير بين الغسل والمسح وجعل القراءتين بمنزلة روايتين في الإخبار إذا لم يمكن ترجيح إحداهما على رأي من يرون التخيير في العمل إذا لم يعرف المرجح . واستأنس الشعبي لمذهبه بأن التيمم يمسح فيه ما كان يغسل في الوضوء ويلغى فيه ما كان يمسح في الوضوء . ومن الذين قرأوا بالخفض من تأول المسح في الرجلين بمعنى الغسل وزعموا أن العرب تسمى الغسل الخفيف مسحا وهذا الإطلاق إن صح لا يصح أن يكون مرادا هنا لأن القرآن فرق في التعبير بين الغسل والمسح .
وجملة ( وإن كنتم جنبا فاطهروا إلى قوله وأيديكم منه ) مضى القول في نظيره في سورة النساء بما أغنى عن إعادته هنا .
وجملة ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ) تعليل لرخصة التيمم ونفي الإرادة هنا كناية عن نفي الجعل لأن المريد الذي لا غالب له لا يحول دون إرادته عائق .
A E