وقد اختلف الفقهاء : في أن الصيد رخصة أو صفة من صفات الذكاة . فالجمهور ألحقوه بالذكاة وهو الراجح ولذلك أجازوا أكل صيد الكتابي دون المجوسي . وقال مالك : هو رخصة للمسلمين فلا يؤكل صيد الكتابي ولا المجوسي وتلا قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ) . وهو دليل ضعف : لأنه وارد في غير بيان الصيد ولكن في حرمة الحرم . وخالفه اشهب وابن وهب من أصحابه . ولا خلاف في عدم أكل صيد المجوسي إلا رواية عن أبي ثور إذ ألحقهم بأهل الكتاب فهو اختلاف في الأصل لا في الفرع .
وقوله ( واتقوا الله ) الآية تذييل عام ختمت به آية الصيد وهو عام المناسبة .
( اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ) يجيء في التقييد ( باليوم ) هنا ما جاء في قوله ( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ) وقوله ( اليوم أكملت لكم دينكم ) عدا وجه تقييد حصول الفعل حقيقة بذلك اليوم فلا يجيء هنا لأن إحلال الطيبات أمر سابق إذ لم يكن شيء منها محرما ولكن ذلك اليوم كان يوم الإعلام به بصفة كلية فيكون كقوله ( ورضيت لكم الإسلام دينا ) في تعلق قوله ( اليوم ) به كما تقدم .
ومناسبة ذكر ذلك عقب قوله ( اليوم يئس ) و ( اليوم أكملت ) أن هذا أيضا منة كبرى لأن إلقاء الأحكام بصفة كلية نعمة في التفقه في الدين .
والكلام على الطيبات تقدم آنفا فأعيد ليبنى عليه قوله ( وطعام الذين أوتوا الكتاب ) . وعطف جملة ( وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ) على جملة ( اليوم أحل لكم الطيبات ) لأجل ما في هذه الرخصة من المنة لكثرة مخالطة المسلمين أهل الكتاب فلو حرم الله عليهم طعامهم لشق ذلك عليهم .
والطعام في كلام العرب ما يطعمه المرء ويأكله وإضافته إلى أهل الكتاب للملابسة أي ما يعالجه أهل الكتاب بطبخ أو ذبح . قال ابن عطية : الطعام الذي لا محاولة فيه كالبر والفاكهة ونحوهما لا يغيره تملك أحد له والطعام الذي تقع فيه محاولة صنعته لا تعلق للدين بها كخبز الدقيق وعصر الزيت . فهذا إن تجنب من الذمي فعلى جهة التقذر . والتذكية هي المحتاجة إلى الدين والنية فلما كان القياس أن لا تجوز ذبائحهم رخص الله فيها على هذه الأمة وأخرجها عن القياس . وأراد بالقياس قياس أحوال ذبائحهم على أحوالهم المخالفة لأحوالنا ولهذا قال كثير من العلماء : أراد الله هنا بالطعام الذبائح مع اتفاقهم على أن غيرها من الطعام مباح ولكن هؤلاء قالوا : إن غير الذبائح ليس مرادا أي لأنه ليس موضع تردد في إباحة أكله .
والأولى حمل الآية على عمومها فتشمل كل طعام قد يظن أنه محرم علينا إذ تدخله صنعتهم وهم لا يتوقون ما نتوقى وتدخله ذكاتهم وهم لا يشترطون فيها ما نشترطه . ودخل في طعامهم صيدهم على الأرجح .
والذين أوتوا الكتاب : هم أتباع التوراة والإنجيل سواء كانوا ممن دعاهم موسى وعيسى عليهما السلام إلى اتباع الدين أم كانوا ممن اتبعوا الدينين اختيارا ؛ فإن موسى وعيسى دعوا بني إسرائيل خاصة وقد تهود من العرب أهل اليمن وتنصر من العرب تغلب وبهراء وكلب ولخم ونجران وبعض ربيعة وغسان فهؤلاء من أهل الكتاب عند الجمهور عدا عليا بن أبي طالب فإنه قال : لا تحل ذبائح نصارى تغلب وقال : إنهم لم يتمسكوا من النصرانية بشيء سوى شرب الخمر . وقال القرطبي : هذا قول الشافعي وروى الربيع عن الشافعي : لا خير في ذبائح نصارى العرب من تغلب . وعن الشافعي : من كان من أهل الكتاب قبل البعثة المحمدية فهو من أهل الكتاب ومن دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن فلا يقبل منه إلا الإسلام ولا تقبل منه الجزية أي كالمشركين .
وأما المجوس فليسوا أهل كتاب بالإجماع فلا تؤكل ذبائحهم وشذ من جعلهم أهل كتاب . وأما المشركون وعبدة الأوثان فليسوا من أهل الكتاب دون خلاف .
A E