وحكمة الرخصة في أهل الكتاب : لأنهم على دين إلهي يحرم الخبائث ويتقي النجاسة ولهم في شؤونهم أحكام مضبوطة متبعة لا تظن بهم مخالفتها وهي مستندة للوحي الإلهي بخلاف المشركين وعبدة الأوثان . وأما المجوس فلهم كتاب لكنه ليس بالإلهي فمنهم أتباع " زراد شت " لهم كتاب " الزندفستا " وهؤلاء هم محل الخلاف . وأما المجوس " المانوية " فهم إباحية فلا يختلف حالهم عن حال المشركين وعبدة الأوثان أو هم شر منهم . وقد قال مالك : ما ليس فيه ذكاة من طعام المجوس فليس بحرام يعني إذا كانوا يتقون النجاسة . وفي جامع الترمذي : أن أبا ثعلبة الخشني سأل رسول الله A عن قدور المجوس . فقال له " أنقوها غسلا واطبخوا فيها " . وفي البخاري : أن أبا ثعلبة سأل رسول الله A عن آنية أهل الكتاب . فقال له " إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها " . قال ابن العربي : " فغسل آنية المجوسن أبا ثعلبة مممممممم فرض وغسل آنية أهل الكتاب ندب " . يريد لأن الله أباح لنا طعام أهل الكتاب فقد علم حالهم وإنما يسري الشك إلى آنيتهم من طعامهم وهو مأذون فيه ولم يبح لنا طعام المجوس فذلك منزع التفرقة بين آنية الفريقين .
ثم الطعام الشامل للذكاة إنما يعتبر طعاما لهم إذا كانوا يستحلونه في دينهم ويأكله أحبارهم وعلماؤهم ولو كان مما ذكر القرآن أنه حرمه عليهم لأنهم قد تأولوا في دينهم تأويلات وهذا قول مالك . وأرى أن دليله : أن الآية عممت طعامهم فكان عمومها دليلا للمسلمين ولا التفات إلى ما حكى الله أنه حرمه عليهم ثم أباحه للمسلمين فكان عموم طعامهم في شرعنا مباحا ناسخا للمحرم عليهم ولا نصبر إلى الاحتجاج " بشرع من قبلنا... " إلا إذا لم يكن لنا دليل على حكمه في شرعنا . وقيل : لا يؤكل ما علمنا تحريمه عليهم بنص القرآن وهو قول بعض أهل العلم وقيل به في مذهب مالك والمعتمد عن مالك كراهة شحوم بقر وغنم اليهود من غير تحريم ؛ لأن الله ذكر أنه حرم عليهم الشحوم .
ومن المعلوم أن لا تعمل ذكاة أهل الكتاب ولا إباحة طعامهم فيما حرمه الله علينا بعينه : كالخنزير والدم ولا ما حرمه علينا بوصفه الذي ليس بذكاة : كالميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع إذا كانوا هم يستحلون ذلك فأما ما كانت ذكاتهم فيه مخالفة لذكاتنا مخالفة تقصير لا مخالفة زيادة فذلك محل نظر كالمضروبة بمحدد على رأسها فتموت والمفتولة العنق فتتمزق العروق فقال جمهور العلماء : لا تؤكل . وقال أبو بكر ابن العربي من المالكية : تؤكل . وقال في الأحكام : فإن قيل فما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس فالجواب : أن هذه ميتة وهي حرام بالنص وإن أكلوها فلا نأكلها نحن كالخنزير فإنه حلال لهم ومن طعامهم وهو حرام علينا يريد إباحته عند النصارى ثم قال : " ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها ؛ هل تؤكل معه أو تؤخذ طعاما منه فقلت : تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا ولكن الله تعالى أباح طعامهم مطلقا وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا في ديننا " . وأشكل على كثير من الناظرين وجه الجمع بين كلامي ابن العربي وإنما أراد التفرقة بين ما هو من أنواع قطع الحلقوم والأوداج ولو بالخنق وبين نحو الخنق لحبس النفس ورض الرأس . وقول ابن العربي شذوذ .
وقوله ( وطعامكم حل لهم ) لم يعرج المفسرون على بيان المناسبة بذكر ( وطعامكم حل لهم ) . والذي أراه أن الله تعالى نبهنا بهذا إلى التيسير في مخالطتهم فأباح لنا طعامهم وأباح لنا أن نطعمهم طعامنا فعلم من هذين الحكمين أن علة الرخصة في تناولنا طعامهم هو الحاجة إلى مخالطتهم وذلك أيضا تمهيد لقوله بعد ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ) لأن ذلك يقتضي شدة المخالطة معهم لتزوج نسائهم والمصاهرة معهم .
( والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين [ 5 ] ) A E