وأما أصول الفقه فلم يكونوا يعدونه من مادة التفسير ولكنهم يذكرون أحكام الأوامر والنواهي والعموم وهي من أصول الفقه فتحصل أن بعضه يكون مادة للتفسير وذلك من جهتين : إحداهما أن علم الأصول قد أودعت فيه مسائل كثيرة هي من طرق استعمال كلام العرب وفهم موارد اللغة أهمل التنبيه عليها علماء العربية مثل مسائل الفحوى ومفهوم المخالفة وقد عد الغزالي علم الأصول من جملة العلوم التي تتعلق بالقرآن وبأحكامه فلا جرم أن يكون مادة للتفسير .
الجهة الثانية : أن علم الأصول يضبط قواعد الاستنباط ويفصح عنها فهو آلة للمفسر في استنباط المعاني الشرعية من آياتها .
وقد عد عبد الحكيم والآلوسي أخذا من كلام السكاكي في آخر فن البيان الذي تقدم آنفا وما شرحه به شارحاه التفتزاني والجرجاني علم الكلام في جملة ما يتوقف عليه علم التفسير قال عبد الحكيم : " لتوقف علم التفسير على إثبات كونه تعالى متكلما وذلك يحتاج إلى علم الكلام " .
وقال الآلوسي " لتوقف فهم ما يجوز على الله ويستحيل على الكلام " يعني من آيات التشابه في الصفات مثل " الرحمن على العرش استوى " وهذا التوجيه أقرب من توجيه عبد الحكيم وهو مأخوذ من كلام السيد الجرجاني في شرح المفتاح وكلاهما اشتباه لأن كون القرآن كلام الله قد تقرر عند سلف الأمة قبل علم الكلام ولا أثر له في التفسير وأما معرفة ما يجوز وما يستحيل فكذلك ولا يحتاج لعلم الكلام إلا في التوسع في إقامة الأدلة على استحالة بعض المعاني وقد أبنت أن ما يحتاج إليه المتوسع لا يصير مادة للتفسير .
ولم نعد الفقه من مادة علم التفسير كما فعل السيوطي لعدم توقف فهم القرآن على مسائل الفقه فإن علم الفقه متأخر عن التفسير وفرع عنه وإنما يحتاج المفسر إلى مسائل الفقه عند قصد التوسع في تفسيره للتوسع في طرق الاستنباط وتفصيل المعاني تشريعا وآدابا وعلوما ولذلك لا يكاد يحصر ما يحتاجه المتبحر في ذلك من العلوم ويوشك أن يكون المفسر المتوسع محتاجا إلى الإلمام بكل العلوم وهذا المقام هو الذي أشار له البيضاوي بقوله : " لا يليق لتعاطيه والتصدي للتكلم فيه إلا من برع في العلوم الدينية كلها أصولها وفروعها وفي الصناعات العربية والفنون الأدبية بأنواعها " .
تنبيه : اعلم أنه لا يعد من استمداد علم التفسير الآثار المروية عن النبي A في تفسير آيات ولا ما يروى عن الصحابة في ذلك لأن ذلك من التفسير لا من مدده ولا يعد أيضا من استمداد التفسير ما في بعض آي القرآن من معنى يفسر بعضا آخر منها لأن ذلك من قبيل حمل بعض الكلام على بعض كتخصيص العموم وتقييد المطلق وبيان المجمل وتأويل الظاهر ودلالة الاقتضاء وفحوى الخطاب ولحن الخطاب ومفهوم المخالفة .
ذكر ابن هشام في مغنى اللبيب في حرف لا عن أبي علي الفارسي أن القرآن كله كالسورة الواحدة ولهذا يذكر الشيء في سورة وجوابه في سورة أخرى نحو ( وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون ) وجوابه ( ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) اه .
وهذا كلام لا يحسن إطلاقه لأن القرآن قد يحمل بعض آياته على بعض وقد يستقل بعضها عن بعض إذ ليس يتعين أن يكون المعنى المقصود في بعض الآيات مقصودا في جميع نظائرها بله ما يقارب غرضها .
واعلم أن استمداد علم التفسير من هذه المواد لا ينافي كونه رأس العلوم الإسلامية كما تقدم لأن كونه رأس العلوم الإسلامية معناه أنه أصل لعلوم الإسلام على وجه الإجمال فأما استمداده من بعض العلوم الإسلامية فذلك استمداد لقصد تفصيل التفسير على وجه أتم من الإجمال وهو أصل لما استمد منه باختلاف الاعتبار على ما حققه عبد الحكيم .
المقدمة الثالثة .
في صحة التفسير بغير المأثور ومعنى التفسير بالرأي ونحوه .
A E