إن قلت : أتراك بما عددت من علوم التفسير تثبت أن تفسيرا كثيرا للقرآن لم يستند إلى مأثور عن النبي A ولا عن أصحابه وتبيح لمن استجمع من تلك العلوم حظا كافيا وذوقا ينفتح له بهما من معاني القرآن ما ينفتح عليه أن يفسر من آي القرآن بما لم يؤثر عن هؤلاء فيفسر بمعان تقتضيها العلوم التي يستمد منها علم التفسير وكيف حال التحذير الواقع في الحديث الذي رواه الترمذي عن ابن عباس أن رسول الله قال " من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار " وفي رواية : " من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار " . والحديث الذي رواه أبو داود والترمذي والنسائي أن النبي A قال : " من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ " وكيف محمل ما روي من تحاشي بعض السلف عن التفسير بغير توقيف ؟ فقد روي عن أبي بكر الصديق أنه سئل عن تفسير الأب في قوله " وفاكهة وأبا " فقال : " أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي " . ويروى عن سعيد بن المسيب والشعبي إحجامهما عن ذلك .
قلت : أراني كما حسبت أثبت ذلك وأبيحه وهل اتسعت التفاسير وتفننت مستنبطات معاني القرآن إلا بما رزقه الذين أوتوا العلم من فهم في كتاب الله . وهل يتحقق قول علمائنا " إن القرآن لا تنقضي عجائبه " إلا بازدياد المعاني باتساع التفسير ؟ ولولا ذلك لكان تفسير القرآن مختصرا في ورقات قليلة . وقد قالت عائشة : " ما كان رسول الله يفسر من كتاب الله إلا آيات معدودات علمه جبريل إياهن " كما تقدم في المقدمة الثانية .
ثم لو كان التفسير مقصورا على بيان معاني مفردات القرآن من جهة العربية لكان التفسير نزرا ونحن نشاهد كثرة أقوال السلف من الصحابة فمن يليهم في تفسير آيات القرآن وما أكثر ذلك الاستنباط برأيهم وعلمهم . قال الغزالي والقرطبي : لا يصح أن يكون كل ما قاله الصحابة في التفسير مسموعا من النبي A لوجهين : أحدهما : أن النبي A لم يثبت عنه من التفسير إلا تفسير آيات قليلة وهي ما تقدم عن عائشة . الثاني أنهم اختلفوا في التفسير على وجوه مختلفة لا يمكن الجمع بينها . وسماع جميعها من رسول الله محال ولو كان بعضها مسموعا لترك الآخر أي لو كان بعضها مسموعا لقال قائله : إنه سمعه من رسول الله A فرجع إليه من خالفه فتبين على القطع أن كل مفسر قال في معنى الآية بما ظهر له باستنباطه . روى البخاري في صحيحه عن أبي جحيفة قال : قلت لعلي : هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله ؟ قال " لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن " إلخ وقد دعا رسول الله A لعبد الله بن عباس فقال " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " واتفق العلماء على أن المراد بالتأويل تأويل القرآن وقد ذكر فقهاؤنا في آداب قراءة القرآن أن التفهم مع قلة القراءة أفضل من كثرة القراءة بلا تفهم قال الغزالي في الإحياء " التدبر في قراءته إعادة النظر في الآية والتفهم أن يستوضح من كل آية ما يليق بها كي تتكشف له من الأسرار معان مكنونة لا تتكشف إلا للموفقين " قال : " ومن موانع الفهم أن يكون قد قرأ تفسيرا واعتقد أن لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس وابن مجاهد وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي فهذا من الحجب العظيمة " وقال فخر الدين في تفسير قوله تعالى ( وعاشروهن بالمعروف ) في سورة النساء : " وقد ثبت في أصول الفقه أن المتقدمين إذا ذكروا وجها في تفسير الآية فذلك لا يمنع المتأخرين من استخراج وجه آخر في تفسيرها وإلا لصارت الدقائق التي يستنبطها المتأخرون في التفسير مردودة وذلك لا يقوله إلا مقلد خلف " بضم الخاء " ا ه . وقال سفيان بن عيينة في قوله تعالى ( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون ) هي تسلية للمظلوم وتهديد للظالم فقيل له : من قال هذا ؟ فغضب وقال : إنما قاله من علمه يريد نفسه وقال أبو بكر ابن العربي في العواصم إنه أملى على سورة نوح خمسمائة مسألة وعلى قصة موسى ثمانمائة مسألة .
A E