وقوله ( ورضيت لكم الإسلام دينا ) الرضى بالشيء الركون اليه وعدم النفرة منه ويقابله السخط : فقد يرضى أحد شيئا لنفسه فيقول : رضيت بكذا وقد يرضى شيئا لغيره فهو بمعنى اختياره له واعتقاده مناسبته له فيعدى باللام : للدلالة على أن رضاه لأجل غيره كما تقول : اعتذرت له . وفي الحديث " إن الله يرضى لكم ثلاثا " وكذلك هنا فلذلك ذكر قوله ( لكم ) وعدي ( رضيت ) إلى الإسلام بدون الباء . وظاهر تناسق المعطوفات : أن جملة ( رضيت ) معطوفة على الجملتين اللتين قبلها وأن تعلق الظرف بالمعطوف عليه الأول سار إلى المعطوفين فيكون المعنى : ورضيت لكم الإسلام دينا اليوم . وإذ قد كان رضى الإسلام دينا للمسلمين ثابتا في علم الله ذلك اليوم وقبله تعين التأويل في تعليق ذلك الظرف ب ( رضيت ) ؛ فتأوله صاحب الكشاف بأن المعنى : آذنتكم بذلك في هذا اليوم أي أعلمتكم : يعني أي هذا التأويل مستفاد من قوله ( اليوم ) لأن الذي حصل في ذلك اليوم هو إعلان ذلك والإيذان به لا حصول رضى الله به دينا لهم يومئذ لأن الرضى به حاصل من قبل كما دلت عليه آيات كثيرة سابقة لهذه الآية . فليس المراد أن ( رضيت ) مجاز في معنى ( أذنت ) لعدم استقامة ذلك : لأنه يزول منه معنى اختيار الإسلام لهم وهو المقصود ولأنه لا يصلح للتعدي إلى قوله ( الإسلام ) . وإذا كان كذلك فدلالة الخبر على معنى الإيذان من دلالته على لازم من لوازم معناه بالقرينة المعينة فيكون من الكناية في التركيب . ولو شاء أحد أن يجعل هذا من استعمال الخبر في لازم الفائدة فكما استعمل الخبر كثيرا في الدلالة على كون المخبر عالما به استعمل هنا في الدلالة على الإعلام وإعلانه .
وقد يدل قوله ( ورضيت لكم الإسلام دينا ) على أن هذا الدين دين أبدي : لأن الشيء المختار المدخر لا يكون إلا أنفس ما أظهر من الأديان والأنفس لا يبطله شيء إذ ليس بعده غاية فتكون الآية مشيرة إلى أن نسخ الأحكام قد انتهى .
( فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم [ 3 ] ) وجود الفاء في صدر هذه الجملة مع عدم مناسبة ما بعد الفاء لما وليته يعين أن تكون متصلة ببعض الآي التي سبقت وقد جعلها المفسرون مرتبطة بآية تحريم الميتة وما عطف عليها من المأكولات من غير تعرض في كلامهم إلى انتظام نظم هذه الآية مع التي قبلها . وقد انفرد صاحب الكشاف ببيان ذلك فجعل ما بين ذلك اعتراضا .
ولا شك أنه يعني باتصال هذه الجملة بما قبلها : اتصال الكلام الناشيء عن كلام قبله فتكون الفاء عنده للفصيحة لأنه لما تضمنت الآيات تحريم كثير مما كانوا يقتاتونه وقد كانت بلاد العرب قليلة الأقوات معرضة للمخمصة : عند انحباس الأمطار أو في شدة كلب الشتاء فلم يكن عندهم من صنوف الأطعمة ما يعتاضون ببعضه عن بعض كما طفحت به أقوال شعرائهم .
فلا جرم أن يكون تحريم كثير من معتاد طعامهم مؤذنا بتوقع منهم أن يفضي ذلك إلى امتداد يد الهلاك إليهم عند المخمصة فناسب أن يفصح عن هذا الشرط المعرب عن أحوالهم بتقدير : فإن خشيتم الهلاك في مخمصة فمن اضطر في مخمصة الخ . ولا تصلح الفاء على هذا الوجه للعطف : إذ ليس في الجمل السابقة من جمل التحريم ما يصلح لعطف ( من اضطر في مخمصة ) عليه .
والأحسن عندي أن يكون موقع ( فمن اضطر في مخمصة ) متصلا بقوله ( ورضيت لكم الإسلام دينا ) اتصال المعطوف بالمعطوف عليه والفاء للتفريع : تفريع منة جزئية على منة كلية وذلك أن الله امتن في هذه الجمل الثلاث بالإسلام ثلاث مرات : مرة بوصفه في قوله ( دينكم ) ومرة بالعموم الشامل له في قوله ( نعمتي ) ومرة باسمه في قوله ( الإسلام ) ؛ فقد تقرر بينهم : أن الإسلام أفضل صفاته السماحة والرفق من آيات كثيرة قبل هذه الآية فلما علمهم يوجسون خيفة الحاجة في الأزمات بعد تحريم ما حرم عليهم من المطعومات وأعقب ذلك بالمنة ثم أزال عقب ذلك ما أوجسوه من نفوسهم بقوله ( فمن اضطر ) الخ ؛ فناسب أن تعطف هاته التوسعة وتفرع على قوله ( ورضيت لكم الإسلام دينا ) وتعقب المنة العامة بالمنة الخاصة