فلا شك أن أمر الإسلام بدئ ضعيفا . ثم أخذ يظهر ظهور سنا الفجر وهو في ذلك كله دين يبين لأتباعه الخير والحرام والحلال فما هاجر رسول الله A إلا وقد أسلم كثير من أهل مكة ومعظم أهل المدينة فلما هاجر رسول الله أخذ الدين يظهر في مظهر شريعة مستوفاة فيها بيان عبادة الأمة وآدابها وقوانين تعاملها ثم لما فتح الله مكة وجاءت الوفود مسلمين وغلب الإسلام على بلاد العرب تمكن الدين وخدمته القوة فأصبح مرهوبا بأسه ومنع المشركين من الحج بعد عام فحج رسول الله A عام عشرة وليس معه غير المسلمين فكان ذلك أجلى مظاهر كمال الدين : بمعنى سلطان الدين وتمكينه وحفظه وذلك تبين واضحا يوم الحج الذي نزلت فيه هذه الآية .
لم يكن الدين في يوم من الأيام غير كاف لأتباعه : لأن الدين في كل يوم من وقت البعثة هو عبارة عن المقدار الذي شرعه الله للمسلمين يوما فيوما فمن كان من المسلمين آخذا بكل ما أنزل إليهم في وقت من الأوقات فهو متمسك بالإسلام فإكمال الدين يوم نزول الآية إكمال له فيما يراد به وهو قبل ذلك كامل فيما يراد من أتباعها الحاضرين .
وفي هذه الآية دليل على وقوع تأخير البيان إلى وقت الحاجة .
وإذا كانت الآية نازلة يوم فتح مكة كما يروى عن مجاهد فإكمال الدين إكمال بقية ما كانوا محرومين منه من قواعد الإسلام إذ الإسلام قد فسر في الحديث بما يشمل الحج إذ قد مكنهم يومئذ من أداء حجهم دون معارض وقد كمل أيضا سلطان الدين بدخول الرسول إلى البلد الذي أخرجوه منه ومكنه من قلب بلاد العربز فالمراد من الدين دين الإسلام وإضافته إلى ضمير المسلمين لتشريفهم بذلك .
ولا يصح أن يكون المراد من الدين القرآن : لأن آيات كثيرة نزلت بعد هذه الآية وحسبك من ذلك بقية سورة المائدة وآية الكلالة التي في آخر النساء على القول بأنها آخر آية نزلت وسورة ( إذا جاء نصر الله ) كذلك وقد عاش رسول الله A بعد نزول آية ( اليوم أكملت لكم دينكم ) نحوا من تسعين يوما يوحى إليه .
ومعنى ( اليوم ) في قوله ( اليوم أكملت لكم دينكم ) نظير معناه في قوله ( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ) .
وقوله ( وأتممت عليكم نعمتي ) إتمام النعمة : هو خلوصها مما يخالطها : من الحرج والتعب .
وظاهره أن الجملة معطوفة على جملة ( أكملت لكم دينكم ) فيكون متعلقا للظرف وهو اليوم فيكون تمام النعمة حاصلا يوم نزول هذه الآية . وإتمام هذه النعمة هو زوال ما كانوا يلقونه من الخوف فمكنهم من الحج آمنين مؤمنين خالصين وطوع إليهم أعداءهم يوم حجة الوداع وقد كانوا من قبل في نعمة فأتمها عليهم فلذلك قيد إتمام النعمة بذلك اليوم لأنه زمان ظهور هذا الإتمام : إذ الآية نازلة يوم حجة الوداع على أصح الأقوال فإن كانت نزلت يوم فتح مكة وإن كان القول بذلك ضعيفا فتمام النعمة فيه على المسلمين : أن مكنهم من أشد أعدائهم وأحرصهم على استئصالهم لكن يناكده قوله ( أكملت لكم دينكم ) إلا على تأويلات بعيدة .
وظاهر العطف يقتضي : أن تمام النعمة منة أخرى غير إكمال الدين وهي نعمة النصر والأخوة وما نالوه من المغانم ومن جملتها إكمال الدين فهو عطف عام على خاص . وجوزوا أن يكون المراد من النعمة الدين وإتمامها هو إكمال الدين فيكون مفاد الجملتين واحدا ويكون العطف لمجرد المغايرة في صفات الذات ليفيد أن الدين نعمة وأن إكماله إتمام للنعمة ؛ فهذا العطف كالذي في قول الشاعر أنشده الفراء في معاني القرآن : .
إلى الملك القرم وابن الهما ... م وليث الكتيبة في المزدحم A E