والدين : ما كلف الله به الأمة من مجموع العقائد والأعمال والشرائع والنظم . وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى ( إن الدين عند الله الإسلام ) في سورة آل عمران . فإكمال الدين هو إكمال البيان المراد لله تعالى الذي اقتضت الحكمة تنجيمه فكان بعد نزول أحكام الاعتقاد التي لا يسع المسلمين جهلها وبعد تفاصيل أحكام قواعد الإسلام التي آخرها الحج بالقول والفعل وبعد بيان شرائع المعاملات وأصول النظام الإسلامي كان بعد ذلك كله قد تم البيان المراد لله تعالى في قوله ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ) وقوله ( لتبين للناس ما نزل إليهم ) بحيث صار مجموع التشريع الحاصل بالقرآن والسنة كافيا في هدي الأمة في عبادتها ومعاملتها وسياستها في سائر عصورها بحسب ما تدعو إليه حاجاتها فقد كان الدين وافيا في كل وقت بما يحتاجه المسلمون . ولكن ابتدأت أحوال جماعة المسلمين بسيطة ثم اتسعت جامعتهم فكان الدين يكفيهم لبيان الحاجات في أحوالهم بمقدار اتساعها إذ كان تعليم الدين بطريق التدريج ليتمكن رسوخه حتى استكملت جامعة المسلمين كل شؤون الجوامع الكبرى وصاروا أمة كأكمل ما تكون أمة فكمل من بيان الدين ما به الوفاء بحاجاتهم كلها فذلك معنى إكمال الدين لهم يومئذ . وليس في ذلك ما يشعر بأن الدين كان ناقصا ولكن أحوال الأمة في الأممية غير مستوفاة فلما توفرت كمل الدين لهم فلا إشكال على الآية . وما نزل من القرآن بعد هذه الآية لعله ليس فيه تشريع شيء جديد ولكنه تأكيد لما تقرر تشريعه من قبل بالقرآن أو السنة . فما نجده في هذه السورة من الآيات بعد هذه الآية مما فيه تشريع أنف مثل جزاء صيد المحرم نجزم بأنها نزلت قبل هذه الآية وأن هذه الآية لما نزلت أمر بوضعها في هذا الموضع . وعن ابن عباس : لم ينزل على النبي بعد ذلك اليوم تحليل ولا تحريم ولا فرض . فلو أن المسلمين أضاعوا كل أثارة من علم والعياذ بالله ولم يبق بينهم إلا القرآن لاستطاعوا الوصول به إلى ما يحتاجونه في أمور دينهم . قال الشاطبي " القرآن مع اختصاره جامع . ولا يكون جامعا إلا والمجموع فيه أمور كلية لأن الشريعة تمت بتمام نزوله لقوله تعالى ( اليوم أكملت لكم دينكم ) وأنت تعلم : أن الصلاة والزكاة والجهاد وأشباه ذلك لم تبين جميع أحكامها في القرآن إنما بينتها السنة وكذلك العاديات من العقود والحدود وغيرها فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها المعنوية وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال وهي : الضروريات والحاجيات والتحسينات ومكمل كل واحد منها فالخارج عن الكتاب من الأدلة : وهو السنة والإجماع والقياس إنما نشأ عن القرآن . وفي الصحيح عن ابن مسعود أنه قال " لعن الله الواشمات والمستوشمات والواصلات والمستوصلات والمتنمصات للحسن المغيرات خلق الله " فبلغ كلامه امرأة من بني أسد يقال لها : أم يعقوب وكانت تقرأ القرآن فأتته فقالت : " لعنت كذا وكذا " فذكرته فقال عبد الله " وما لي لا ألعن من لعن رسول الله وهو في كتاب الله " فقالت المرأة " لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته " فقال " لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه " : قال الله تعالى ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) اه .
فكلام ابن مسعود يشير إلى أن القرآن هو جامع أصول الأحكام وأنه الحجة على جميع المسلمين إذ قد بلغ لجميعهم ولا يسعهم جهل ما فيه فلو أن المسلمين لم تكن عندهم أثارة من علم غير القرآن لكفاهم في إقامة الدين لأن كلياته وأوامره المفصلة ظاهرة الدلالة ومجملاته تبعث المسلمين على تعرف بيانها من استقراء أعمال الرسول وسلف الأمة المتلقين عنه ولذلك لما اختلف الأصحاب في شأن كتابة النبي لهم كتابا في مرضه قال عمر : حسبنا كتاب الله فلو أن أحدا قصر نفسه على علم القرآن فوجد ( أقيموا الصلاة وآتوا حقه يوم حصاده وكتب عليكم الصيام وأتموا الحج والعمرة لله ) لتطلب بيان ذلك مما تقرر من عمل سلف الأمة وأيضا ففي القرآن تعليم طرق الاستدلال الشرعية كقوله ( لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) .
A E