وقوله ( إلا ما ذكيتم ) استثناء من جميع المذكور قبله من قوله ( حرمت عليكم الميتة ) ؛ لأن الاستثناء الواقع بعد أشياء يصلح لأن يكون هو بعضها يرجع إلى جميعها عند الجمهور ولا يرجع إلى الأخيرة إلا عند أبي حنيفة والإمام الرازي والمذكورات قبل بعضها محرمات لذاتها وبعضها محرمات لصفاتها . وحيث كان المستثنى حالا لا ذاتا لأن الذكاة حالة تعين رجوع الاستثناء لما عدا لحم الخنزير إذ لا معنى لتحريم لحمه إذا لم يذك وتحليله إذا ذكي لأن هذا حكم جميع الحيوان عند قصد أكله . ثم إن الذكاة حالة تقصد لقتل الحيوان فلا تتعلق بالحيوان الميت فعلم عدم رجوع الاستثناء إلى الميتة لأنه عبث وكذلك إنما تتعلق الذكاة بما فيه حياة فلا معنى لتعلقها بالدم وكذا ما أهل لغير الله به لأنهم يهلون به عند الذكاة فلا معنى لتعلق الذكاة بتحليله فتعين أن المقصود بالاستثناء : المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع فإن هذه المذكورات تعلقت بها أحوال تفضي بها إلى الهلاك فإذا هلكت بتلك الأحوال لم يبح أكلها لأنها حينئذ ميتة وإذا تداركوها بالذكاة قبل الفوات أبيح أكلها . والمقصود أنها إذا ألحقت الذكاة بها في حالة هي فيها حية وهذا البيان ينبه إلى وجه الحصر في قوله تعالى ( قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أوفسقا أهل لغير الله به ) . فذكر أربعة لا تعمل الذكاة فيها شيئا ولم يذكر المنخنقة والموقوذة وما عطف عليها هنا لأنها تحرم في حال اتصال الموت بالسبب لا مطلقا . فعضوا على هذا بالنواجذ .
وللفقهاء في ضبط الحالة التي تعمل فيها الذكاة في هاته الخمس عبارات مختلفة : فالجمهور ذهبوا إلى تحديدها بأن يبقى في الحيوان رمق وعلامة حياة قبل الذبح أو النحر من تحريك عضو أو عين أو فم تحريكا يدل على الحياة عرفا وليس هو تحريك انطلاق الموت . وهذا قول مالك في الموطا ورواية جمهور أصحابه عنه . وعن مالك : أن المذكورات إذا بلغت مبلغا أنفذت معه مقاتلها بحيث لا ترجى حياتها لو تركت بلا ذكاة لا تصح ذكاتها فإن لم تنفذ مقاتلها عملت فيها الذكاة . وهذه رواية ابن القاسم عن مالك وهو أحد قولي الشافعي . ومن الفقهاء من قالوا : إنما ينظر عند الذبح أحية هي أم ميتة ولا ينظر إلى حالة هل يعيش مثلها لو تركت دون ذبح . وهو قول ابن وهب من أصحاب مالك واختاره ابن حبيب وأحد قولين للشافعي . ونفس الاستثناء الواقع في الآية يدل على أن الله رخص في حالة هي محل توقف في إعمال الذكاة أما إذا لم تنفذ المقاتل فلا يخفى على أحد أنه يباح الأكل إذ هو حينئذ حيوان مرضوض أو مجروح فلا يحتاج إلى الإعلام بإباحة أكله بذكاة إلا أن يقال : إن الاستثناء هنا منقطع بمعنى لكن أي لكن كلوا ما ذكيتم دون المذكورات وهو بعيد . ومن العلماء من جعل الاستثناء من قوله ( وما أكل السبع ) على رأي من يجعل الاستثناء للأخيرة ولا وجه له إلا أن يكون ناظرا إلى غلبة هذا الصنف بين العرب فقد كانت السباع والذئاب تنتابهم كثيرا ويكثر أن يلحقوها فتترك أكيلتها فيدركوها بالذكاة .
A E