و ( ما ذبح على النصب ) هو ما كانوا يذبحونه من القرابين والنشرات فوق الأنصاب . والنصب بضمتين الحجر المنصوب فهو مفرد مراد به الجنس وقيل : هو جمع وواحده نصاب ويقال : نصب بفتح فسكون ( كأنهم إلى نصب يوفضون ) . وهو قد يطلق بما يرادف الصنم وقد يخص الصنم بما كانت له صورة والنصب بما كان صخرة غير مصورة مثل ذي الخلصة ومثل سعد . والأصح أن النصب هو حجارة غير مقصود منها أنها تمثال للآلهة بل هي موضوعة لأن تذبح عليها القرابين والنسائك التي يتقرب بها للآلهة وللجن فإن الأصنام كانت معدودة ولها أسماء وكانت في مواضع معينة تقصد للتقرب . وأما الأنصاب فلم تكن معدودة ولا كانت لها أسماء وإنما كانوا يتخذها كل حي يتقربون عنها فقد روى أئمة أخبار العرب : أن العرب كانوا يعظمون الكعبة وهم ولد إسماعيل فلما تفرق بعضهم وخرجوا من مكة عظم عليهم فراق الكعبة فقالوا : الكعبة حجر فنحن ننصب في أحيائنا حجارة تكون لنا بمنزلة الكعبة فنصبوا هذه الأنصاب وربما طافوا حولها ولذلك يسمونها الدوار بضم الدال المشددة وبتشديد الواو ويذبحون عليها الدماء المتقرب بها في دينهم .
وكانوا يطلبون لذلك أحسن الحجارة . وعن أبي رجاء العطاردي في صحيح البخاري : كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجرا خيرا منه ألقينا الأول وأخذنا الآخر فإذا لم نجد حجرا " أي في بلاد الرمل " جمعنا جثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبناها عليه ليصير نظير الحجر ثم طفنا به .
فالنصب : حجارة أعدت للذبح وللطواف على اختلاف عقائد القبائل : مثل حجر الغبغب الذي كان حول العزى . وكانوا يذبحون على الأنصاب ويشرحون اللحم ويشوونه فيأكلون بعضه ويتركون بعضا للسدنة قال الأعشى يذكر وصايا النبي A في قصيدته التي صنعها في مدحه : .
" وذا النصب المنصوب لا تنسكنه وقال زيد بن عمرو بن نفيل للنبي A قبل البعثة وقد عرض عليه الرسول سفرة ليأكل معه في عكاظ : " إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم " . وفي حديث فتح مكة : كان حول البيت ثلاثمائة ونيف وستون نصبا وكانوا إذا ذبحوا عليها رشوها بالدم ورشوا الكعبة بدمائها . وقد كان في الشرائع القديمة تخصيص صخور لذبح القرابين عليها تمييزا بين ما ذبح تدينا وبين ما ذبح للأكل فمن ذلك صخرة بيت المقدس قيل : إنها من عهد إبراهيم وتحتها جب يعبر عنها ببئر الأرواح لأنها تسقط فيها الدماء والدم يسمى روحا . ومن ذلك فيما قيل : الحجر الأسود كان على الأرض ثم بناه إبراهيم في جدر الكعبة . ومنها حجر المقام في قول بعضهم . فلما اختلطت العقائد في الجاهلية جعلوا هذه المذابح لذبح القرابين المتقرب بها للآلهة وللجن . وفي البخاري عن ابن عباس : النصب : أنصاب يذبحون عليها . قلت : ولهذا قال الله تعالى ( وما ذبح على النصب ) بحرف ( على ) ولم يقل وما ذبح للنصب لأن الذبيحة تقصد للأصنام والجن وتذبح على الأنصاب فصارت الأنصاب من شعائر الشرك .
ووجه عطف ( وما ذبح على النصب ) على المحرمات المذكورة هنا مع أن هذه السورة نزلت بعد أن مضت سنين كثيرة على الإسلام وقد هجر المسلمون عبادة الأصنام أن في المسلمين كثيرين كانوا قريبي عهد بالدخول في الإسلام وهم وإن كانوا يعلمون بطلان عبادة الأصنام أول ما يعلمونه من عقيدة الإسلام فقد كانوا مع ذلك مدة الجاهلية لا يختص الذبح على النصب عندهم بذبائح الأصنام خاصة بل يكون في ذبائح الجن ونحوها من النشرات وذبائح دفع الأمراض ودفع التابعة عن ولدانهم فقالوا : كانوا يستدفعون بذلك عن أنفسهم البرص والجذام ومس الجن وبخاصة الصبيان ألا ترى إلى ما ورد في كتب السيرة : أن الطفيل بن عمرو الدوسي لما أسلم قبل الهجرة ورجع إلى قومه ودعا امرأته إلى الإسلام قالت له : أتخشى على الصبية من ذي الشرى " صنم دوس " . فقال : لا أنا ضامن فأسلمت ونحو ذلك فقد يكون منهم من استمر على ذبح بعض الذبائح على الأنصاب التي في قبائلهم على نية التداوي والانتشار فأراد الله تنبيههم وتأكيد تحريم ذلك وإشاعته . ولذلك ذكر في صدر هذه السورة وفي آخرها عند قوله ( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ) الآيات .
A E