هم ناس كانوا يؤمنون بألسنتهم فإذا مسهم أذى من الكفار وهو المراد بفتنة الناس كان ذلك صارفا لهم عن الإيمان كما أن عذاب الله صارف للمؤمنين عن الكفر . أو كما يجب أن يكون عذاب الله صارفا وإذا نصر الله المؤمنين وغنمهم اعترضوهم وقالوا : " إنا كنا معكم " أي مشايعين لكم في دينكم ثابتين عليه ثباتكم ما قدر أحد أن يفتننا فأعطونا نصيبنا من المغنم . ثم أخبر سبحانه أنه أعلم " بما في صدر العالمين " من العالمين بما في صدورهم ومن ذلك ما تكن صدورهم ومن ذلك ما تكن صدور هؤلاء من النفاق وهذا إطلاع منه لمؤمنين على ما أبطنوه ثم وعد المؤمنين وأوعد المنافقين وقرئ : ليقولن بفتح اللام .
" وقال الذين كفروا للذين ءامنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شئ إنهم لكاذبون وليحملن أثقالهم وأثقلا مع أثقالهم وليسئلن يوم القيامة عما كانوا يفترون " أمروهم باتباع سبيلهم وهي طريقتهم التي كانوا عليها في دينهم وأمروا أنفسهم بحمل خطاياهم فعطف الأمر على الأمر وأرادوا : ليجتمع هذان الأمران في الحصول أن تتبعوا سبيلنا وأن نحمل خطاياكم . والمعنى : تعليق الحمل بالاتباع وهذا قول صناديد قريش : كانوا يقولون لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم فإن عسى كان ذلك فإنا نتحمل عنكم الإثم . ونرى في المتسمعين بالإسلام من يستن بأولئك فيقول لصاحبه - إذا أراد أن يشجعه على ارتكاب بعض العظائم - افعل هذا وإئمة في عنقي . وكم من مغرور بمثل هذا الضمان من ضعفه العامة وجهلتهم - ومنه ما يحكى أن أبا جعفر المنصور رفع غليه بعض أهل الحشو حوائجه فلما قضاها قال : يا أمير المؤمنين بقيت الحاجة العظمى . قال : وما هي : قال شفاعتك يوم القيامة فقال له عمرو بن عبيد C : إياك وهؤلاء فإنهم قطاع الطريق في المأمن . فإن قلت : كي سماهم كاذبين وإنما ضمنوا شيئا علم الله أنهم لا يقدرون على الوفاء به وضامن ما لا يعلم اقتداره على الوفاء به لا يسمى كاذبا لا حين ضمن ولا حين عجز لأنه في الجالين لا يدخل تحت حد الكاذب وهو المخبر عن الشئ لا على ما هو عليه ؟ قلت : شبه الله حالهم حيث علم أن ما ضمنوه لا طريق لهم إلى أن يفوا به فكان ضمانهم عنده لا على ما علهي المضمون بالكاذبين الذين خبرهم لا على ما عليه المخبر عنه . ويجوز أن يريد أنهم كاذبون لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه كالكاذبين الذين يعدون الشئ وفي قلوبهم نية الخلف " وليحملن أثقالهم " أي أثقال أنفسهم " وأثقالا " يعني أثقالا أخر غير الخطايا التي ضمنوا للمؤمنين حملها وهي أثقال الذين كانوا سببا في ضلالهم " وليشئلن " سؤال تقريع " عما كانوا يفترون " أي يختلفون من الأكاذيب والأباطيل . وقرئ : من خطيآتهم .
" ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها ءاية للعالمين " كان عمر نوح عليه السلام ألفا وخمسين سنة بعث على رأس أربعين ولبث في قومه تسعمائة وخمسين وعاش بعد الطوفان ستين . وعن وهب : أنه عاش الفا وأربعمائة سنة . فإن قلت : هلا قيل : تسعمائة وخمسين سنة ؟ قلت : ما أورده الله أحكم . لأنه لو قيل كما قلت لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره وهذا التوهم زائل مع مجيئه كذلك وكأنه قيل : تسعمائة وخمسين سنة وافية العدد إلا أن ذلك أخصر وأعذب لفظا وأملأ بالفائدة وفيه نكتة أخرى : وهي أن القصة مسوقة لذكر ما ابتلى به نوح عليه السلام من أمته وما كابده من طول المصابرة تسلية لرسول الله A وتثبيتا له فكان ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكثر منه أوقع وأوصل إلى الغرض من استطاله السامع مدة صبره . فإن قلت : فلم جاء المميز أولا بالسنة وثانيا بالعام ؟ قلت : لأن تكرير اللفظ الواحد في الكلام الواحد حقيق بالإجتناب في البلاغة إلا إذا وقع ذلك لأجل غرض ينتجه المتكلم من تفخيم أو تهويل أو تنويه أو نحو ذلك . و " الموفان " ما أطاف وأحاط بكثرة وغلبة من سيل أو ظلام ليل أو نحوهما . قال العجاج : وغم طوفان الظلام الأثأبا